أعاد إعلان الولايات المتحدة الأميركية تشكيل قوة من الأكراد في سوريا قوامها 30 ألف شخص، الحديث والتساؤلات عن احتمال تقسيم الأراضي السورية، وتحقيق الأكراد لحلمهم في إقامة نظام مستقل لهم في المناطق الممتدة من الشمال الشرقي إلى الشمال الغربي السوري، بموازاة الحدود مع تركيا.
وتحدث الكاتب والصحفي البريطاني روبرت فيسك – وهو مراسل لمنطقة الشرق الأوسط في صحيفة الإندبندنت البريطانية – عن حرب كردية جديدة تلوح في الأفق، مشيراً إلى غياب فرص الأكراد في إقامة دويلة لهم، لكون القوى الفاعلة في سوريا لن تسمح بذلك.
وفي تعليقه على إعلان الولايات المتحدة لتشكيل "قوة أمن الحدود" من المقاتلين الأكراد، قال فيسك في مقال نشره بصحيفة "الإندبندنت"، اعتبر أن العقيد توماس فيل حصل على مهمةٍ لا يُحسَد عليها عندما أعلن أول محاولةٍ غربيةٍ رسميةٍ لتقسيم سوريا على أُسسٍ عرقيةٍ طائفية.
وأشار فيسك إلى أن فيل سواءً أدرك أو لم يدرك تبعات تصريحه الاستثنائي منذ عدة أيام، كان منفتحاً في حديثه عن تأسيس قوةٍ جديدةٍ ذات أغلبيةٍ كرديةٍ لتسيطر نظرياً على آلاف الكيلومترات المربعة في سوريا.
أما العناصر العربية ضمن "قوة أمن الحدود" المُقدَّر عددها بـ30 ألف مقاتل، فتتولَّى تأمين نقاط التفتيش جنوباً بطول وادي نهر الفرات.
وصرَّح فيل: "سيُجنَّد المقاتلون بطريقةٍ تسمح بتشكيل قوةٍ تعكس السكان الذين سيخدمونهم، من ناحية الجنس والعرق". وبالتالي، سيتولَّى الأكراد حماية الأكراد، بينما يسيطر العرب (السنة تحديداً، رغم عدم تواجدهم بكثرة) على المناطق غير الكردية في المقاطعة، والتي تقع على طول الحدود الكردية في الشمال، وهي بمثابة دعوةٍ لتأجيج الحرب الأهلية حال اندلاعها.
"قرار غير صائب"
وقدم فيسك ما اعتبره تدليلاً على وجود التباسٍ في القرار الأميركي، وقال إنه علينا فقط أن نُسلِّط الضوء على التحالف الضئيل وغير المسبوق الذي أدى إليه هذا القرار بين النظام السوري – المُتحمِّس لاستعادة كل شبرٍ من الأراضي التي هاجمها تنظيما الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة، وغيرها من القوى العسكرية – وتركيا، والتي حاولت في نفس الفترة تحديداً إسقاط الأسد.
ووعد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بـ"خنق" هذا "الجيش الإرهابي" الجديد والحليف لأميركا، كما وصفه، باعتباره قوةً كرديةً يتحكَّم فيها حزب العمال الكردستاني المُصنف على لائحة الإرهاب لدى أنقرة وواشنطن، في حين وصفت حكومة الأسد تشكيل القوة الكردية بـ"الاعتداء الصارخ" على السيادة السورية. بينما حذَّرَت روسيا من التقسيم.
واعتبر فيسك أن تركيا مُحقَّةٌ في شكوكها بشأن سيطرة حزب العمال الكردستاني على المقاتلين الأكراد المحليين، كما اعتبر أيضاً أن الأسد كان مُحقَّاً في وصفه لتشكيل "قوة أمن الحدود" بالاعتداء على السيادة السورية – بغض النظر عمَّن يحكم الدولة نفسها – كما تُدرك روسيا جيداً، وهي التي لا تستغرب أمر تقسيم أوكرانيا، كيف تتعرَّف على هذا السلوك الأميركي المُخادع والمشابه.
العلاقة بين الأكراد والأسد
وسلط فيسك في مقاله الضوء على بدايات العلاقة بين نظام الأسد والأكراد، وقال إنه مع بداية الحرب في سوريا، حصلت "وحدات حماية الشعب" الكردية المحلية على الدعم والتشجيع من السلطات في دمشق لمواجهة داعش والقاعدة (جبهة النصرة فيما بعد) وغيرها من الجماعات الجهادية التي حاولت السيطرة على سوريا.
وسلم الجيش السوري آلاف الأسلحة للقوات الكردية من أجل الدفاع عن أنفسهم. وفي الأيام الأولى، مدح الأسد شخصياً الأكراد لمقاومتهم القوات "الإرهابية" لداعش والقاعدة.
ويروي فيسك خلاصة زيارة أجراها قبل ثلاثة أعوامٍ أو أكثر عند الحدود السورية التركية، وتحدث خلالها مع الجنود السوريين و"حلفائهم" الأكراد – المفترضين – في الشرق.
وعبر الأكراد الذين تحدثوا إليه حينها عن رغبتهم في تأسيس مقاطعةٍ "فيدراليةٍ" في الشمال، وأقسموا لي أنهم لن ينسوا العذابات التي ذاقوها على يد نظام الأسد. وفي المقابل أصرَّ العسكريون السوريون أنهم لن يتنازلوا "أبداً وبتاتاً" عن الأرض للأكراد.
نقطة تحول
بعد هذا التقارب بين الأكراد والأسد القائم على المصالح بالدرجة الأولى، جاء القرار الأميركي بتدمير داعش وحصار الموصل في العراق والهجوم على معقل داعش في الرقة داخل سوريا.
وشكَّلَت واشنطن وقتها أول ميليشيا معاديةٍ لداعش والأسد وتابعةٍ لها، وأسمتها "قوات الدفاع السورية". ومثل سائر المجموعات السياسية المشابهة، لم تكن تلك القوات "سورية" العرق – لكونها كرديةً إلى حدٍ كبير – ولم تكن مهتمةً بـ"الدفاع" عن سوريا كدولة.
كما لم تكن لتلك الميليشيات "قوة" فعلية دون الغطاء الجوي الأميركي. وخلال ساعات، بدأ الاسم في الظهور على الشاشات وتوقَّفَت وسائل الإعلام عن استخدام علامات التنصيص حوله، مما منحه شرعيةً زائفة.
وسرعان ما تحوَّل الاسم إلى "قوات الدفاع السورية المدعومة من الولايات المتحدة"، وحاربت تلك الميليشيات بشجاعة في طريقها نحو الجنوب حتى سيطرت على الرقة، المدينة السورية الكبرى، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
لكن جيش الحكومة السورية كان على بعد 12 ميلاً فقط على الجانب الآخر من الرقة، وأنشأ بالفعل مركزاً للتنسيق في قريةٍ محاطةٍ بجدرانٍ طينيةٍ بالقرب من نهر الفرات، حيث اجتمع ضباط الجيش السوري والمقاتلون الأكراد المُسلحين من قِبَل الأميركيين وعقيد في القوات الجوية الروسية بصورةٍ دورية.
وقال فيسك إنه التقى بهم مجتمعين في مقرهم قُبيل استعادة الرقة. مشيراً إلى أن السلطات السورية بالفعل دأبت على إعادة تأسيس حكومةٍ محليةٍ (مؤيدةٍ للأسد) للرقة في الحقول الواقعة غرب المدينة، والتي دبرت أمر إعادة توصيل الكهرباء إلى المدينة من الشبكة السورية ودفع معاشات التقاعد للمسنين وإصلاح الصرف الصحي وغيره من المرافق.
وبعبارةٍ أخرى – يضيف فيسك – "كانت سوريا تتدبر أمر حفظ سيادتها على الرقة، لكن الكثير من المقاتلين الأكراد المسلحين من قِبَل الأميركيين احتلوا شوارعها".
"خيانة أميركية" للأكراد
ويسكن المنطقة بالطبع العديد من الأعراق والطوائف: المسلمون السنة والمسيحيون الشراكسة والأرمن والتركمان والشيشانيون. ومن هنا أتى وعد العقيد فيل بضمان إبقاء السيطرة المستقبلية على المنطقة بما يتوافق مع التقسيمات العرقية أو الطائفية.
ويشير الصحفي البريطاني إلى أن "قوات سوريا الديمقراطية" (التي يُشكل المقاتلون الكرد الجزء الأكبر منها ) تخطت دورها بشكلٍ واضح.
وأضاف أنه بعدما لعبت تلك القوة دور الجنود الأميركيين على الأرض، "كان لابد من إعادة تجسيدهم تحت مسمى مخادعٍ آخر يُدعى هذه المرة قوة أمن الحدود" – التي سُتمنح قريباً، بلا شك، الوسام الإعلامي المعتاد بكتابة اختصار اسمهم دون علامات تنصيص – التي ستُسيطر على أراضٍ سوريةٍ بعيدةٍ عن الحدود مع تركيا، وهو ما لا يضمن (ولن يضمن) أمن تركيا، وستظل تلك القوات معتمدةً بالكامل كسابقتها على الأسلحة والإمدادات والمعدات والغطاء الجوي والضربات الجوية الأميركية إذا لزم الأمر".
وأكد فيسك أن "الأكراد سيتعرضون للخيانة، لأن القوة الجديدة ستبقى على الساحة فقط طالما يرى الأميركيون ضرورة وجودها، وبعد ذلك ستُترك تحت رحمة السوريين والأتراك الذين يعتبرونها خطراً على هيمنتهم".
ومنذ وقتٍ طويل، يعتبر أردوغان، والأسد أي عدوٍ لدولتهم بمثابة "الإرهابيين"، وقال فيسك إن هذه الكلمة خطيرة ويرجع أصلها إلى روسيا القيصرية والحرب العالمية الثانية، قبل أن تشهد صعودها إلى قمة توهجها على الأميركيين ومراسلي العالم.
وأضاف أن أنقرة ودمشق ستعاملان الأكراد بهذه الطريقة حتى يخضعوا. فلن تسمح سوريا بوجود دولةٍ كرديةٍ مصغرةٍ على أرضها، ولن تتسامح تركيا مع فكرة إقامة دولةٍ كرديةٍ مصغرةٍ على طول حدودها الجنوبية، مهما تشدقت بالعلمانية والليبرالية والاشتراكية.
ويختم فيسك مقاله بالإشارة إلى أن "قوة أمن الحدود" تضم 230 رجل ميليشيا مسلحاً وتحت التمرين فقط، بينما سينضم الـ29779 الباقين تباعاً.
وقال إنه "إذا صدق العقيد فيل في تصريحاته. وبينما يستعد أولئك المقاتلون لتبديل ولائهم من مجموعةٍ مسلحةٍ مدعومةٍ من أميركا إلى أخرى، سيكون أمام أردوغان والأسد – بالإضافة إلى بوتين – قضية مشتركة عليهم مناقشتها: تدمير الطموحات السياسية الأميركية في سوريا".