تتفحَّصُ ملابسَ شتوية بتصاميم مختلفة وتقول لمُرافقَتها التي تُجرّب بدورها معطفاً صوفياً أسود، "لنقتنِ ملابسَ تقينا البرد على الأقل، فربما لن ننعم بملابسنا الأنيقة والجميلة بأثمنتها المعتادة بعد ذلك".
حديث الزَّبونتين داخل المحل الخاص بالملابس التركية الذي تُديره الشابة نسيبة برعيش، ليس الأول من نوعه، إذ تكرر مراراً على مسامعها منذ أن أعلنت الحكومة المغربية رفع قيمة الضرائب على الواردات التركية من منتوجات النسيج والألبسة إلى 90 بالمائة، بداية الأسبوع المنصرم.
إلا أن صاحبة المحل كانت أكثر تشاؤماً من المُتحدّثتين، ذلك أن فكرة إقفال المحل، بمجرد "التخلص" من عشرات القطع الشتوية المتبقية، باتت تُراودها منذ آخر مكالمة جمعتها بشركة الشحن التي كانت صلة وصل بينها وبين سلع بلاد الأناضول.
مستاءةً وغاضبة، تتساءل تاجرة الملابس التركية المستوردة، لـ "عربي بوست"، "لفائدة من وُضع هذا القرار الذي سيدفعني لإقفال محلي الذي أعيش من أرباحه؟، سأترك هذا المجال كلياً وأبحث عن عمل جديد تماماً، فلا أستطيع أن أبيع لزبوناتي ملابس من إنتاج مصانع مغربية لا جودة فيها ولا إبداع".
جودة تركية.. رداءة مغربية!
"الجودة والإبداع"، بيت القصيد الذي تبحث عنه كل النساء كمعيار أساسي لارتداء ملابس أنيقة بتصاميم مبتكرة وشبابية مسايرة للعصر، وهو بالضبط ما وجدته المغربيات في الملابس التركية، رأي سارت إليه أسماء بلكاوي، مُدرّسة، حين أكدت لـ"عربي بوست"، أن "المصانع المغربية لا تنتج ملابس مُتقنة وأنيقة، كما لا تُرْضي أذواق النساء المُحجبات ولا تضع اعتباراً لمن ترغب في ارتداء ملابس طويلة ومحتشمة!".
ولَئنْ برَّرت الحكومة المغربية، قرارها الذي يأتي متزامناً مع إعلان الجزائر افتتاح "أكبر مصنع نسيج في إفريقيا" بشراكة تركية باستثمارات فاقت 1.5 مليار دولار، بالقول إن "تنامي الواردات التركية تسبب بإضعاف وحدات صناعية موجهة إلى السوق المحلية وكان مسؤولاً عن خسائر كبرى على مستوى فرص الشغل"، فإن المغاربة يسألون أولاً عن بديل يُرضيهم.
هذا تماماً ما جعل الشابة أسماء زريول، تُوجه كلامها للحكومة عبر "عربي بوست" موضحة، "لو وجدنا ألبسة مغربية بجودة عالية لما اتجهنا صوب التركية. كان عليهم قبل ذلك طرح البديل المغربي المنافس للجودة التركية".
فيما اعتبرت عذراء حمودي، موظفة بوزارة الأوقاف، أن "الرَّداءة تدفع المستهلك المغربي إلى الإقبال على المنتوج التركي الذي يتميز بجودته المتوسطة والعالية، إذ أنه يُشكل بديلاً للمحجبات اللواتي يبحثن عن الأناقة والجديد في الموديلات".
تسعيرة شحن مضاعفة
قيمة الضرائب الجديدة المُطبَّقة على المنسوجات التركية سترتفع من 20 بالمئة إلى 90 بالمئة، في وقت أكدت فيه حسناء مود، تاجرة ومستوردة لملابس تركية، أنها لا تعلم بعد إن كانت هذه القيمة ستُطبق على الكيلوغرام الواحد أم على كل قطعة من الملابس.
وأضافت لـ"عربي بوست" لقد "تجاوزتُ صدمة القرار، وبتُّ أبحث عن حلول حتى أستمر في عملي وإرضاء زبوناتي، ومستعدة لتقليل هامش ربحي حتى لا أفقدهن".
في هذه المرحلة يصبح قرار الاستمرار من عدمه رهيناً بهامش الربح ومدى إقبال الزبائن على ملابس سيزيد ثمنها حتماً، خاصة وأن قُطب الرحى سيدور على شركات شحن مغربية وتركية وكذلك مصرية الجنسية تعمل على ربط المغرب بتركيا محملة بأطنان من الملابس ومختلف المنتوجات الأخرى.
بعد سؤال "عربي بوست" عن المبلغ الذي سيُؤمّن نقل كل هذه البضائع، اتضح أن الأمر يمر عبر طريقين اثنين، إذ تصل بعض الملابس عن طريق الشحن الجوي مقابل 7 يوروهات عن كل كيلوغرام، باعتبارها الطريقة الأسرع، مقابل 3 يوروهات لكل كيلوغرام بالشحن البحري الذي يستغرق أسابيع قد تصل إلى شهر.
بعد القرار الأخير، سيكون على التجار والمستوردين المغاربة أداء 13 يورو عن كل كيلوغرام مُحمّل بالطائرة، أما البضائع المشحونة على البواخر فتصل إلى 9 يوروهات، ما سيُعجّل برفع ثمن قطعة من الملابس إلى ما يقارب النصف، وفق ما أكدته التاجرة حسناء مود، "قيمة سروال نسائي بـ 25 دولاراً سيرتفع ليصل إلى 44 دولاراً بعد رفع الضرائب".
قرار لـ200 يوم.. تراجُع نسبي للحكومة؟
الباب الموصد أمام الملابس التركية، دفع المغاربة مستهلكين وتجاراً إلى استنكار الخطوة وانتقادها بشدة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما حذا بالحكومة، كما يبدو، إلى التراجع جزئياً عن القرار.
رقية الدرهم كاتبة الدولة (وزيرة) المكلفة بالتجارة الخارجية بالحكومة المغربية، فاجأت المغاربة حين أكدت، خلال حديثها بمجلس المستشارين بالبرلمان، أن القرار ليس مطلقاً أو دائماً.
فهو لا يعدو أن يكون "إجراءً وقائياً لمدة سنة واحدة فقط، ذلك أن الحسم في المسألة رهين بنتيجة المشاورات الجارية مع تركيا في إطار اتفاق التبادل الحر"، وفق تعبيرها، وهي المدة التي تم تقليصها إلى 200 يوم لا غير وفق ما تم نشره على الموقع الرسمي للجريدة الرسمية.
تجار يطلبون تدخل الملك
لم يقف التجار المغاربة مكتوفي الأيدي حيال القرار، إذ قاموا بتوجيه رسالة إلى الديوان الملكي ورئاسة الحكومة ووزارة الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي، اعتبروا من خلالها أن القرار استَعمل "مَطية الدفاع على مصالح الاقتصاد الوطني لتمرير قرار يهدف إلى مُراكمة ثروات أكثر في جيوب من يدعون أنهم مصنعون".
وقالت الرسالة التي تحمل توقيعات قرابة عشرين جمعية مهنية تضم التجار والمستوردين والموزعين، إن القرار "ضربٌ صارخ لمصالح المواطنين البسطاء الذين وجدوا في المنتوجات التركية الجودة التي يبحث عنها المواطن البسيط أو صاحب الدخل المحدود"، محذرين من أن يؤدي هذا القرار للاحتقان.
مشاعر التجار المغاربة الغاضبة والمنددة، تجد لها ما يُبرّرها، وفق ما أكدته نسيبة برعيش، مشيرة إلى أنها وهي التاجرة التي تبيع الملابس بالتقسيط، خسرت سلعة بـ 1000 دولار قامت بحجزها قبل يومين من إعلان القرار ونشره رسمياً، لتكون بذلك مُلزمة بدفع أضعاف المبلغ لفائدة المكلفين بالشحن، "لو علمت بالقرار لما تجرّأت على طلب شحنة الملابس تلك".
مصلحة المغرب أَولى.. ولابد من التجويد
لا شك أن للنسيج مكانة مهمة في الاقتصاد المغربي، كيف لا وهو الذي يُشغّل 400 ألف منصب عمل، 60 في المائة منه من النساء و56 في المائة من الشباب، فضلاً عن صادرات حققت 35 مليار درهم عام 2016، ما جعل أبو العرب عبد النبي، أستاذ الاقتصاد بجامعة "مونديابوليس الدولية" يؤكد على أن أي إجراء يقوم بحماية الاقتصاد المغربي فهو أمر جيد.
واعتبر المتحدث لـ"عربي بوست"، أن اتفاقية التبادل الحر مع تركيا لطالما صبَّت في مصلحتها، موضحاً أن الحاجة باتت ماسة لإعادة التوازن للسوق المغربية في ظل توغل للمنتوجات التركية، ما يهدد المقاولات المغربية ومن بينها العاملة في مجال الملابس والنسيج، لافتاً إلى أن تطبيق القرار لمدة سنة تكون كافية لإعادة النظر في تداعياته والتأكد من سلامته.
وبحسب الخبير الاقتصادي، أن إغلاق السوق المغربية في وجه دولة شقيقة، يُعد ضرورة لحماية المقاولة الوطنية وقراراً سليماً يُعيد التوازن للميزان التجاري، داعياً في الآن نفسه إلى اعتماد إجراءات مواكبة لدعم المقاولة المغربية قصد التحول للإنتاج الكيفي ولتطوير تصاميمها والإبداع أكثر.
فالجمالية والجودة معياران لا يمكن تجاوزهما، ما يجعل الحكومة المغربية ملزمة بعصرَنة القطاع وتحويله لإنتاج منتوجات حقيقية ومنفتحة على أسواق دولية، وقادرة على تلبية حاجيات المغاربة، موضحاً أن رجال الأعمال المغاربة سيستفيدون من هذا القرار ذلك أن حصة من السوق الداخلية ستعود إليهم لا محالة.
وكانت المنتوجات التركية تحظى بانتشار وقبول كبيرين في الأسواق المغربية بموجب اتفاق التبادل الحر المبرم بين المغرب وتركيا، والذي دخل حيز التنفيذ عام 2006، وهو الأمر الذي حفّز بشكل قوي نمو الصادرات التركية صوب المغرب من منتوجات الألبسة والنسيج، حيث سجلت ارتفاعاً بنسبة 175 بالمئة بين سنتي 2013 و2017.
وتُعد واردات الألبسة والنسيج، من أبرز مستوردات المغرب من تركيا، حيث عرفت الملابس الجاهزة خاصة منها المُوجَّهة للأطفال والنساء المحجبات رواجاً كبيراً، كما ينشط مستثمرون أتراك في إقامة مصانع منسوجات في عدد من المدن المغربية.