بالنسبة لأصدقائه، لم يكن يساورهم أي شك في أنَّ جوليو ريجيني كان سعيداً جداً بكونه طالباً في جامعة كمبردج. كانت الجامعة تبدو مثالية للباحث الإيطالي الشاب الذي كان موهوباً وشديد الطموح.
لكن في العامين اللذين تليا العثور على جثته التي ملأتها آثار التعذيب، ملقاةً على جانب الطريق بالقرب من القاهرة، وهي جريمة قتلٍ حمَّل الكثيرون شرطة أمن الدولة مسؤوليتها- أصبح رفض كمبردج المشاركة علناً في التحقيق في وفاة الطالب الإيطالي مثيراً للجدل، وفق ما ذكرته صحيفة الغارديان البريطانية.
وقد واجه المُحققون الإيطاليون، الذين أُحبَطوا من المماطلة المصرية، صعوبةً في الحصول على إجاباتٍ عن أسئلتهم في المملكة المتحدة أيضاً؛ مثل: ما إذا كان ريجيني قد أُجبِرَ على متابعة أبحاثه في الحركة العمالية المصرية بما يتجاوز راحته الشخصية، وما إذا كان يتعيَّن على "كمبردج" بذل جهدٍ أكبر لحماية ريجيني، الذي كان يبلغ من العمر حينها 28 عاماً.
كانت الأستاذة المصرية د. مها عبد الرحمن متورِّطة في قلب هذه المعضلة؛ لكونها معلمة ريجيني الخاصة، وكانت هدفاً مفضلاً لتقارير الصحف الإيطالية، التي جعلتها تبدو كأنَّها تقاوم بصورة مستمرة الإدلاء بأي معلومات.
الأنظار تتجه إلى "كمبردج"
وهذا الشهر (يناير/كانون الثاني)، ستواجه أستاذةٌ بجامعة كمبردج المُحقِّقين الإيطاليين في المملكة المتحدة، بعد أن وافقت على الإجابة عن أسئلتهم. وكانت هذه الخطوة التي اعتُبِرَت تقدماً مفاجئاً، من الزاوية الدبلوماسية، قد أُعلِنَت في ديسمبر/كانون الأول 2017، بعد عقد اجتماعٍ مشترك بين وزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو، ووزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون.
وقد أثارت القضية دعوات للحفاظ على الحرية الأكاديمية ضد مطالب المحققين الإيطاليين الذين يسعون للحصول على معلومات عن قضية ريجيني، وأثارت مشهداً نادراً لتبادل أصابع الاتهام بين واحدة من أكثر الجامعات المرموقة في العالم والمسؤولين الإيطاليين.
يقول المطلعون على هذه الضجة إنَّها أثارت أيضاً توترات بين والدي ريجيني و"كمبردج"، وأثارت الشكوك أيضاً في أنَّ الحكومة الإيطالية قد تسعى إلى تركيز اهتمامها على "كمبردج" بدلاً من مصر لأسبابٍ سياسية.
فمن خلف الأستار، سعى دبلوماسيون من كلا البلدين لتخفيف حدة التوترات التي ظهرت بعد فترةٍ وجيزة من جنازة ريجيني في إيطاليا عام 2016، والتي حضرتها مها عبد الرحمن وفقاً لبعض المطلعين على الأمر.
وتواصلت الشرطة الإيطالية مع مها بصورةٍ غير رسمية؛ للتحدُّث بشأن المسألة، لكنَّ التقارير أفادت بأنَّها رفضت إجراء مقابلة كاملة، ثم امتنعت فيما بعد عن الرد الكامل على الأسئلة التي طُرِحَت عليها بالبريد الإلكتروني. أما المقربون من مها، فقد قالوا إنَّها تأثرت بشدة بسبب مقتل ريجيني، وكانت تخشى دوافع الاستجواب.
التعاون القضائي بين "كمبردج" وإيطاليا
وفي فبراير/شباط من العام الماضي، وبعد توجيه اتهامات إليها بأنَّها غير متعاونة، كتب نائب رئيس "كمبردج" آنذاك، السير ليزيك بوريسيويتز، رسالة إلى جونسون؛ للتعبير عن استياء "كمبردج" من عدم إحراز تقدم في التحقيق الدولي. وقالت الرسالة إنَّ "كمبردج" ستكون مستعدة "لمساعدة حكومة صاحب الجلالة بكل الطرق الممكنة في سبيل أن ترى تقدماً في القضية".
وقدَّم المدعون العامون في إيطاليا طلبين رسميين إلى المملكة المتحدة؛ لتحقيق تعاون قضائي بشأن التحقيق، وتلقت وزارة الخارجية البريطانية الطلب الأول في مايو/أيار 2016، ونقلته إلى شرطة كمبردج، التي طلبت من المدّعين الإيطاليين مقابلة مها عبد الرحمن، لكنَّها رفضت.
طلب المسؤولون الإيطاليون التحدُّث مع مها مرةً أخرى في أغسطس/آب 2017.
لكنَّها وافقت على إجراء مقابلة فقط بعد أن وافق قاضٍ بريطاني على إصدار مذكرة تحقيقٍ أوروبية، وذلك وفقاً لما ذكره ألفانو.
أخذت مها عبد الرحمن إجازة تغيُّب عن التعليم بعد مقتل ريجيني. وفي التقارير الصحفية الإيطالية، بدأت نظريات المؤامرة في الظهور، وضمنها الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة بأنَّها تدعم جماعة الإخوان المسلمين الإسلامية المحظور نشاطها في مصر، وأنَّ هذا جعل السلطات المصرية تشك في ريجيني.
ونقلت صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية التي اقتبست "محادثة سرية" بين ريجيني وصديقٍ له، رفضت الكشف عن هويته، أنَّ الطالب الإيطالي ومها كانا قد اختلفا حول اقتراحها بأن يكون له معلم إضافي مقيم بالقاهرة، والذي وصفه ريجيني سراً لصديقه بأنَّه ربما يكون ناشطاً سياسياً، ما "قد يُسلِّط عليه الأضواء".
وكان ريجيني قد قدَّمَ طلبات التحاق بالعديد من برامج الدكتوراه الأخرى، بما في ذلك كلية لندن للاقتصاد، حيث اقترح أبحاثاً مماثلة حول الحركات الاجتماعية، لكنَّها رفضت منحه التمويل في نهاية الأمر؛ ما دفعه إلى الالتحاق بجامعة كمبردج.
وقد رفضت الجامعة الرد على طلبات التعليق. وأصرَّت على أنَّها على استعدادٍ للتعاون، لكن فقط من خلال قنواتٍ قانونيةٍ رسمية، وطلباتٍ قانونية، لا من خلال مطالب غير رسمية للحصول على المعلومات.
أبحاث ريجيني السياسية
ويقول أصدقاء وزملاء سابقون لريجيني إنَّ أبحاثه لم تُجرَ بناءً على طلب من الجامعة، وأنَّه كان مدفوعاً للبحث في موضوع النقابات، الذي يتسم بحساسية سياسية، دون أي تدخُّلٍ من الجامعة نفسها.
ربط جون تشالكرافت، أستاذ السياسة والتاريخ الشرق الأوسطيين بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، توقيت تركيز إيطاليا على مسؤوليات "كمبردج"، بالمصالح التجارية المتنامية لإيطاليا بمصر في الوقت الحالي.
وحسبما ذكر تشالكرافت: "أود أن أسترعي الانتباه إلى أنَّه بينما أعلن وزير الشؤون الخارجية الإيطالي للبرلمان الإيطالي في 4 سبتمبر/أيلول 2017، أنَّ الإيطاليين استأنفوا فعلياً العمل كالمعتاد مع الحكومة التي قتلت أحد مواطنيها، ذكر في اللحظة ذاتها بداية التحقيق مع مؤسسةٍ بريطانية".
وقال عمرو علي، وهو صديق لمها عبد الرحمن وأستاذ يدرس بمؤسسات عدة في جميع أنحاء مصر، بما في ذلك الجامعة الأميركية بالقاهرة، التي كان ريجيني مُلتحِقاً بها أيضاً: "وفقاً لفهمي للأمر، لم ترتكب الدكتورة مها أي خطأ".
ومع ذلك، أدت البحوث التي اعتُبرت مثيرة للجدل إلى استهداف الباحثين بالماضي. ففي عام 2015، رُحّلت عالمة اجتماع فرنسية بكلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس، عرفت فقط باسم فاني، من مصر بعد إجراء بحوث حول حركة 6 أبريل المحظورة في منطقة دلتا النيل المصرية. وروت في وقتٍ لاحق أنَّها كانت تعرف أنَّ أحدهم يتتبعها ويراقبها قبل فترةٍ طويلة من ترحيلها.
ولطالما كان الباحثون والمؤسسات على حد سواء يتعرضون لأخطار الترحيل والمضايقات، لكنَّ وحشية قضية ريجيني صدمت المجتمع الأكاديمي.
وقال علي إنَّ "قضية جوليو تعدَّت المألوف. لكن هذا أيقظنا على واقعٍ جديد. غالباً ما يظن الناس أنَّ الأكاديميين أقل عرضة للتهديد من الصحفيين، لكنَّ هناك طريقة أخرى للنظر إلى الأمر: يمكن للصحفيين التعرف عليهم بسهولة، عكس الأكاديميين. حتى لو كان جهاز الأمن لا يتفق مع أحد الصحفيين، فهم يعرفون معنى أن تكون صحفياً".
فيما ذكر أحد باحثي الدكتوراه، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه؛ لحماية المؤسسات التي درس بها: "أن تبلغ من العمر 28 عاماً يعني أنَّك شخص بالغ، وكان ريجيني من ذوي الخبرة العالية، وقضى الكثير من الوقت ليس فقط في مصر، لكن بدمشق أيضا، أي إنَّه عاش في ظل الأنظمة الاستبدادية فترة طويلة من الزمن".
وأضاف: "لا أعتقد أنَّ أحداً كان يمكن أن يتنبأ بهذا، ولم يكن بإمكان (كمبردج) فعل أي شيء لمنعه".