استقالات قسرية وأوامر رئاسية بالتنحّي .. ماذا يحدث في أروقة حزب العدالة والتنمية التركي؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/27 الساعة 08:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/27 الساعة 08:55 بتوقيت غرينتش

لا يمكن تجاهل حدث استقالة رؤساء البلديات في أكبر المدن في أي دولة كبرى، لكن الأمر يصبح مثيراً للدهشة والتساؤل عندما يكون رؤساء البلديات هؤلاء جميعاً من نفس الحزب السياسي، وهذا تحديداً ما جرى في الأسابيع الأخيرة في تركيا، عندما أجبر الرئيس التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان، رؤساء البلديات في 6 مدن على الاستقالة، من بينها أكبر المدن: العاصمة أنقرة، وإسطنبول، ومدينة بورصة، وقيام الحزب باستبدال مسؤوليه في أكثر من 20 مدينة ما يجعله حدثاً غير مسبوق في السياسة التركية.

في هذا التحقيق نبحث أسباب الاستقالات والتطورات التي يمر بها العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، كيف تحدث مثل هذه التغيرات على نحوٍ مفاجئ؟ وما دوافع تلك القرارات الجذرية التي أدت لتغيير رؤساء البلديات في مدن احتفظ الحزب فيها بالصدارة الانتخابية لأكثر من عشر سنوات.

أردوغان: الضعف يدب في أوصال الحزب


تعود نقطة البدء لتلك العملية إلى تصريحٍ أصدره أردوغان في الثلاثين من أغسطس/آب الماضي. استخدم فيه التعبير التركي الشائع "تآكل الأساس"، ليفيد بأنَّ الضعف والصدأ يدب في أوصال ومفاصل حزبه، وأنَّ بعض مسؤوليه وأعضائه وفروعه قد فقدوا فاعليتهم بسبب العمل بصورةٍ مستمرة لفترةٍ طويلة داخل الحزب.

يرى البعض أنَّ أردوغان شعر حينها بأنَّ الوقت بات مناسباً لفتح هذا الموضوع الشائك عقب النتائج المخيبة للآمال في بعض المدن التركية الكبيرة لاستفتاء التعديلات الدستورية التركية الذي عُقِدَ في 16 أبريل/نيسان عام 2017 (بالرغم من تحقيق النتيجة التي كان العدالة والتنمية يرجوها على مستوى البلاد).

وحتى قبل أن يُدلي أردوغان بالتصريح المثير للجدل، كانت هناك أماراتٌ لحدوث تغيير داخل الحزب؛ إذ سبق واستقال بالفعل مسؤولو العدالة والتنمية في اثنتي عشرة مدينة. وعلى ذلك فإنَّ حديث أردوغان عن "تآكل الأساس" لم يكن إلا تعبيراً واضحاً عما يجري داخل حزبه ودلالةً لما هو آتٍ. وبالفعل بدأت الاستقالات الجديدة تتوالى واحدةً تلو الأخرى. فاستقال رئيس فرع العدالة والتنمية في كونيا، التي تعد واحدةً من معاقل الحزب، من منصبه في 17 أكتوبر/تشرين الأول. وكذلك في 25 أكتوبر/تشرين الأول قالت أوزنور تشاليك عضوة اللجنة التنفيذية للحزب إنَّ العدالة والتنمية ينوي تغيير مسؤوليه في عشرين مدينة أخرى.

مزيد من الاستقالات قادمة


وما أضفى على هذه العملية مزيداً من الإثارة هو انتشار الشائعات التي أفادت أنَّ رؤساء البلديات في بعض المدن الكبرى سيُجبَرون أيضاً على الاستقالة. بدت الإشاعات جادة، ولكن كان من الصعب تصديق أنَّ حزب العدالة والتنمية سيجرؤ على تغيير رؤساء المدن الكبرى في تركيا. وكذلك فإنَّ القانون التركي ينص على أنَّه من المستحيل عزل رئيس بلدية عن منصبه إلا إن قبل رئيس البلدية ذلك أو طُرِدَ من الحزب، ما لم يرتكب جريمةً تُفضِي إلى عزله من منصبه بعد استيفاء الإجراءات القضائية؛ وهذا يعني أنَّ الحزب إما أن يقنعهم بالاستقالة، أو أن يلجأ إلى تكنيك آخر ستكون نتائجه سيئة على كافة الأطراف.

ومع ذلك، دخل الخيار الأول حيز التنفيذ. ففي البداية، استقال قدير طوباش رئيس بلدية إسطنبول في عمليةٍ سلسة. وتبعه محمد كيليش رئيس بلدية مدينة دوزجة، ورفعت أوزكان رئيس بلدية مدينة نيدا. ومع ذلك، فحين طُلِبَ من رؤساء بلديات أنقرة وبورصة وباليكيسير الاستقالة بمحض إرادتهم، بدرت منهم مقاومةً عنيفة. وإحقاقاً للحق، كانت المقاومة جريئة للغاية بالنسبة لحزبٍ مثل العدالة والتنمية، الذي استقال رئيسه ورئيس وزرائه أحمد داوود أوغلو بلا أي مقاومةٍ قبل عام واحد بعد خلاف مع أردوغان. وعلى مدار بضعة أسابيع، احتلت مقاومة المسؤولين الرافضين عناوين الأخبار. فعلى سبيل المثال، قال مليح غوكشيك رئيس بلدية أنقرة الذي كان اسمه قد طُرح في السابق لتولي رئاسة الوزراء: "سيكون من الظلم المغادرة بهذه الطريقة. هل ارتكبتُ فساداً، أم انضممتُ إلى جماعة فتح الله غولن، فلِمَ أستقيل إذاً؟"

ومليح غوكشيك هو أحد أهم الساسة الأتراك، إذ شغل منصب رئيس بلدية العاصمة أنقرة بشكل متواصل منذ 1994، وانضم لحزب العدالة والتنمية بعد تأسيسه، وكانت آخر الانتخابات المحلية التي فاز بها قد عُقدت في مارس/آذار 2014.

نهاية المعركة القصيرة


وبينما كان الأتراك جميعاً ينتظرون بترقب ما ستؤول إليه هذه الأحداث، استسلم المسؤولون المقاومون، وأعلنوا استقالتهم واحداً تلو الآخر. كان أردوغان قد صرّح في 18 تشرين الأول/أكتوبر قائلاً "لا أستطيع، ولا أريد أن أفكر في أن أصدقاءنا سيختارون ألا يستقيلوا، لأن تبعات خطوة مثل تلك ستكون شديدة الوطأة".

بعد ذلك بعشرة أيام تقريباً نظَّم آخرهم، أحمد أديب أوغور رئيس بلدية باليكيسير، مؤتمراً صحفياً حمل مخاطر كبيرة، وأدلى بتصريحاتٍ صادمة في أثناء إعلان استقالته في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

لم يستقل أوغور من منصبه فقط، بل استقال كذلك من حزب العدالة والتنمية. كان الرجل غاضباً ومُحبطاً، إلى حد أنه أجهش بالبكاء في أثناء المؤتمر الصحفي.

وبعد انتهاء معركة رؤساء البلديات الثلاثة بانسحابهم، بدا أن الأمور قد هدأت نسبياً، ولكنَّها لم تستقر تماماً إلى الآن. فهناك شائعات مفادها أنَّ ثمة موجة جديدة قادمة من الاستقالات، وسيُطلَب من مزيدٍ من العُمَد ورؤساء بعض فروع الحزب الأخرى الاستقالة. حتى أنَّ هناك مزاعم بأنَّ حزب العدالة والتنمية سيُجري تغييراتٍ ملحوظة في مجلس الوزراء والبرلمان قبل انتخابات عام 2019.

لماذا التغيير؟ ولماذا الآن؟


في معسكر المشاورات السنوي الأخير لحزب العدالة والتنمية، قال أردوغان بحسم إن رجاله إذا لم يتمكنوا من الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة، فإن "جميع النجاحات التي حققها الحزب ستصبح بلا معنى".

الانتخابات الرئاسية القادمة ستُعقد في عام 2019، وهو العام الذي سيشهد إجراء انتخابات بلدية وبرلمانية كذلك. يبدو إذاً أن أردوغان يريد التعامل مع "الصدأ" الذي يتحدث عنه قبل 2019 بأي وسيلة.

يرى أردوغان أنَّ الانتخابات المحلية، المتوقع إجراؤها قبل بضعة أشهُر من الانتخابات الرئاسية، محطة مصيرية للفوز فى انتخابات الرئاسة. وفي استفتاء التعديلات الدستورية الذي أُجرِيَ في 16 أبريل/نيسان من العام الماضي 2016، واجه حزب العدالة والتنمية انخفاضاً ملحوظاً في الأصوات التي حصل عليها في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة. ولذلك، فهو حذرٌ جداً في تحديد المرشحين الذين سيبثون روحاً جديدة في المدن الكبيرة، وهو مستعدٌ لاتخاذ خطواتٍ جريئة لفعل ذلك.

كذلك يدافع أردوغان عن حالة الطوارئ التي تشهدها تركيا حالياً، والتي تمكن السلطات المحلية ووزارة الداخلية -قانونياً- من تعيين رؤساء البلديات وأعضاء المجالس المحلية في حال فراغ مناصبهم لأسباب تتعلق باتهامات مرتبطة بالإرهاب.

قبل الانتخابات المحلية، يسعى أردوغان أيضاً إلى تقليص القلق المتزايد بين قاعدة ناخبي حزب العدالة والتنمية في المدن إلى أدنى حدٍ ممكن، ومن ثم، فمن المنطقي أن يُغيِّر المسؤولين المُثيرين للمشاكل، والمكروهين بين فئاتٍ كبيرةٍ من الشعب مثل مليح غوكشيك، الذي تعددت تصريحاته المثيرة والتي طالما قوبلت باستنكار أو حتى سخرية كثير من الأتراك، وكذلك المُحاطين ببعض الشبهات مثل رئيس بلدية إسطنبول قدير طوباش. ويمكن ملاحظة جهود أردوغان لإرضاء الناخبين الساخطين في المدن الكبرى في أحد خطاباته الأخيرة، التي وصل الأمر فيها إلى اتهام نفسه بخيانة إسطنبول من خلال السماح بالتخطيط العمراني غير الكفء وجهود إعادة الإعمار القبيحة.

التغييرات داخل الحزب قد تكون مثار دهشة بالفعل، إلا أن المتابعين للمشهد التركي عن قرب يدركون تماماً أن هذه كانت نية الرئيس أردوغان من البداية، فبُعيد الاستفتاء على التعديلات الدستورية صرّح قائلًا: "عام 2017 سيكون عام التغيير، وعام 2018 سيكون عام العمل، وعام 2019 سيكون عام الانتخابات".

جدل حاد حول الاستقالات


جذبت موجة الاستقالات القسرية العديد من ردود الفعل المتناقضة، من ناحية يؤكد منتقدو القرار على أحقية رؤساء البلديات الاستمرار في مناصبهم طالما أنهم منتخبون. يقول الصحفي مصطفى قرة علي أوغلو، إن "هؤلاء المسؤولين لا ينتمون إلى أحزابهم السياسية فقط، بل ينتمون كذلك إلى أهل المدن التي يُمثِّلونها".

أما إبراهيم كيراس، رئيس تحرير صحيفة قرار فيقول إن أسباب هذه القرارات يجب أن تُفسر للشعب التركي، "فمن جاء بالانتخابات لا يرحل إلا بها".

لكن وزير السياحة والثقافة التركي، نائب رئيس الوزراء السابق، نعمان كورتولموش صرّح لعربي بوست قائلًا "على مدار 15 عاماً، شهد حزب العدالة والتنمية الكثير من التغييرات. حتى في كل مؤتمر عادي، كان يتغير 20% من هيكل الحزب. فالتغيير والدينامية هما المبدآن الرئيسيان للعدالة والتنمية".

يرد كورتولموش على المنتقدين أيضاً "في وضع مثاليّ، من جاء بالانتخابات ينبغي ألا يرحل بسواها. ولكن في الواقع، لم يُعيَّن رؤساء بلدياتنا في مناصبهم بأصواتٍ مباشرة من سكان المدينة، ولا من مندوبي الحزب المحليين. ومن ثمَّ لا تنطبق هذه القاعدة على شرعيتهم." ويعطي كورتولموش الحق لرئيس الجمهورية بإعادة تعيين الولاة قائلاً "بطبيعة الحال، يمكن للسلطة التي عيَّنتهم أن تطلب استقالتهم. أتمنى أن نتمكن من تطبيق الطريقة المثلى لتعيين ولاتنا في المستقبل، ولكن في الوقت الراهن، هذه هي الحقيقة".

يعتقد كورتولموش أن الماراثون الانتخابي لعام 2019 يحتاج إلى استعداد جيد من قبل العدالة والتنمية. "في النظام الجديد الذي نتج عن الاستفتاء الأخير الخاص بالتعديلات الدستورية نهدف للوصول إلى ما لا يقل عن 50 + 1% من الأصوات، لأنَّ أي نتيجةٍ أقل من تلك لن تعني انتصاراً بالنسبة لنا." يقول كورتولموش.

ولا يخفي كورتولموش قلقه من تبعات هذه الاستقالات، يقول "نعم، هناك بعض الخطورة، لكننا بحاجة إلى تهدئة الأجواء في المدن الكبرى، ولهذا نحتاج لتغييراتٍ جذرية"

هل ستحقق التغييرات هدفها؟


لكن إبراهيم أوسلو المدير العام لمؤسسة ANAR التركية الشهيرة للأبحاث واستطلاعات الرأي يختلف مع كورتولموش في أن سبب انخفاض الدعم الشعبي لحزب العدالة والتنمية في المدن الكبرى لا يكمن في رؤساء البلديات، ولذلك، قد لا يعود هذا القرار بالنفع على الحزب.

يعتقد أوسلو أنَّه يجب على حزب العدالة والتنمية والحكومة التركيز أولاً على مراجعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية العامة للحفاظ على قاعدة الناخبين، المكونة من الطبقة المتوسطة أو العليا في المدن الكبرى.

من ناحية أخرى، يرى المعترضون على القرار أنَّه لا يمكن السماح لرؤساء البلديات بترك مناصبهم بلا مساءلة، إذا كانت هناك أي قضايا فساد أجبرتهم على الاستقالة. إذ يجب إحالة هذه القضايا إلى المحكمة ومواجهة الفاسدين.

في كل الأحوال، وسواء كانت هذه الاستقالات ستخدم أغراض حزب العدالة والتنمية أم لا، فإننا على يقين من شيء واحد، وهو أن هذا الوضع لم يسبق له مثيل في تاريخ الحزب، وأن المستقبل القريب سيشهد المزيد من المفاجآت.

تحميل المزيد