“نحن موتى وإن لم نُدفن بعد”.. أحياء المقابر في القاهرة يروون قصصهم وسط قبور الموتى (صور)

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/22 الساعة 07:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/22 الساعة 07:21 بتوقيت غرينتش

تجلس الأسرة حول جهاز تلفاز، تشاهد فيلماً من أفلام بوليوود، ومن آنٍ لآخر تتصاعد الضحكات من أفرادها إذا ما صادفهم مشهدٌ مضحك.

لكن خارج الغرفة، كان هناك مشهدٌ آخر: يصل موكبٌ يحمل كفناً أزرقاً داكناً صغيراً؛ ومن بين الحضور امرأة ثكلى تندب صغيرها المقبور.

وغير بعيد عن المكان، يلتف جمعٌ آخر حول التلفاز لمشاهدة مباراة بين الأهلي والإسماعيلي على تلفاز ملحق بجدار، وتتصاعد الصيحات والتصفيق مع كل هدف يحرزه الأهلي. في حين أنَّ الجنازة مستمرة، وفق تقرير نشره موقع ميدل إيست آي البريطاني.

يُمثِّل ما سبق يوماً عادياً في حياة سكان منطقةٍ في القاهرة التي تُسمى "القرافة"، في أحد المقابر المكتظة بالسكان الذين يحاولون تسيير أمور حياتهم بشكلٍ عادي قدر الإمكان.

ويصف السكان حياتهم، فتقول صابرين، وهي أمٌ لثلاثة أطفال: "في البداية، بدت الحياة هنا شديدة الصعوبة، لكن بعد مرور بعض الوقت، ألفناها، وأصبحت عادية"، وتضيف متحدثةً عن حالها وزوجها: "أحياناً أشعر أنَّنا نحن أيضاً موتى، وإن لم نُدفَن بعد".

وصابرين متزوجة من سيد العربي، الذي وُلِد في المقابر، ويخشى صاحب الـ67 عاماً أن يقضي أبنائه حياتهم أيضاً وسط الموتى، على خطى أبيهم وأجدادهم. وفي هذا السياق، يقول العربي: "الحياة هنا صعبة وبائسة، ولا أريد لابني أن يرثها مني". ويكتظ المكان الذي يسميه "المنزل" به وبزوجته وابنه وابنتيه اللتين عادتا للعيش معه بعد طلاقهما.

وعلى مضض، تحدَّث أحمد -ابن سيد العربي- عن حالة اللامبالاة التي تحيط بوضعهم، فقال: "نعيش هنا جيلاً بعد جيل؛ دونما أمل في الخروج".

وقبل أن يخرج الفتى البالغ من العمر 13 ربيعاً ليلتحق بعمله على عربة فول شعبية في الشارع يحاول من خلالها مساعدة أسرته المتعسرة بثلاثين جنيهًا يوميًا، قال: "يأتي الكثير من الناس إلى هنا ويلتقطون الصور ويتحدثون إلينا للترويج لقضيتنا، ثُمَّ لا يحدث شيئ"، وأضاف مخاطبًا مراسلنا: "حتى أنت لن تساعدنا".

انتقل جد سيد العربي، عبد الحميد، إلى القاهرة عام 1950 مع زوجته من إحدى قرى الجيزة على بُعد 35 كم جنوب القاهرة، بحثاً عن عمل. ولم يكن دخله يسمح له بدفع إيجار ولو شقة صغيرة لأسرته، فسكن مدفناً مملوكاً لعائلة ثرية في القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر، حيث يرقد العديد من المشاهير مثل المطرب والممثل فريد الأطرش وأخته أسمهان في هذا المدفن.

ويعمل بعض سكان المقابر كمتعهدي قبور، يحفرونها ويقومون على خدمتها، بينما يعمل آخرون كباعة يقدمون خدمات مختلفة.

ويحتوي المدفن، الذي تبلغ مساحته 200 متر مربع تقريباً، على غرفة دفن صغيرة؛ وعادةً ما تشتري الأسر المصرية ميسورة الحال قبوراً تتضمن غرفة واحدة على الأقل، يوارون فيها جثامين موتاهم.

وقد بُنيَت المدافن لمنح أفراد الأسرة مساحةً للاستراحة وقضاء اليوم حين يزورون أقاربهم الموتى في عطلات نهاية الأسبوع أو في المناسبات الدينية.

وفي أرجاء غرفةٍ صغيرة، يتناثر القليل من قطع الأثاث وبعض الأمارات على وجود حياة هنا. وتُسيِّر الأسرة أمورها بسريرٍ واحد متداعٍ، وأريكتين ينام عليهما أفراد الأسرة أيضاً، وغسالةٍ في حالةٍ متهالكة، وتلفاز صغيرة.

وعملية تحضير الطعام في هذا المكان غير معقدة؛ إذ تتم باستخدام موقد صغير متهالك، ولا يتناول أفراد الأسرة في أغلب الأحوال سوى الأرز والمعكرونة والبطاطس والخضروات؛ ونادراً ما يملكون ثمن اللحم أو الدجاج.

يقول العربي: " نأكل يوماً بيوم ولا يكون لدينا طعامٌ فائض قط، لذا لا نحتاج إلى ثلاجة".

حين التقى العربي وصابرين أول مرة، كانت هي الأخرى تعيش في المقابر مع والديها.

قدَّر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر عام 2008 عدد سكان المقابر في القاهرة وحدها بمليون ونصف نسمة، ولم يُحدَّث الرقم منذ ذلك الحين. وذكر الجهاز في سبتمبر/أيلول من عام 2017 أنَّه لا يوجد رقم محدد لسكان المقابر في مصر. ويُذكّر أنَّ 20 مليون نسمة من سكان مصر، البالغ عددهم أكثر من 90 مليون نسمة، يعيشون في القاهرة.

تصل الكهرباء إلى أسرة العربي عن طريق مُولِّد صغير يعمل بوقود الديزل، يملكه أحد الجيران. وتدفع الأسرة 10-15 جنيهاً مصرياً (0.56 دولاراً أمريكيًا إلى 0.84 دولاراً أمريكياً) شهرياً نظير حصتهم من الديزل.

وخارج المدفن بالقرب من حجرة الدفن، توجد حفرة في الأرض محاطة بقضبان خشبية تُستخدم كمرحاض، ومُثبَّتٌ فيها علبة معدنية صغيرة لمساعدتهم على الاستنجاء والغسيل.

وتشير إحصائيات رسمية صدرت عام 2017 أنَّ 40 ألف أسرة تعيش دون مرافق حمام مناسبة.

ويقول العربي في ابتئاس: "هكذا نعيش في عام 2017. لايمكننا الحصول على المياه العذبة أو الكهرباء أو غير ذلك من الاحتياجات الأساسية".

وبسبب طبيعة عمله كإسكافي، لا يملك العربي دخلاً ثابتاً، ويقول إنَّ الطلب على حرفته منخفض جداً.

ويضيف إلى أعباء حياة هذه الأسرة الصغيرة مرض صابرين بالقلب وعجز زوجها عن تحمل نفقات العلاج، التي تبلغ حوالي 250 جنيهاً مصرياً (14 دولاراً أمريكياً) شهرياً. ولحسن الحظ، تتحمل جمعية خيرية محلية عنه تكاليف العلاج، بل وحتى دفع تكاليف إجراء جراحة في القلب لها.

"أنام بعينين مفتوحتين"


في المدفن المجاور لآل العربي، يسكن يونس إبراهيم، البائع المتجول صاحب الـ63 عاماً الذي يبيع كل ما يمكن بيعه، بما في ذلك القمصان والأحذية.

وحاول إبراهيم، الأب لثمانية أطفال، أن يسد الفتحات في البوابة الرئيسية باستخدام قضبانٍ خشبية وأكياس بلاستيكية. لكنَّ المدخل المتداعي يسمح بدخول الهواء البارد حين تحاول الأسرة النوم ليلاً.
ويقول إبراهيم: "كل ما أريده هو مكانٌ له باب يغلق عليَّ وعلى عائلتي؛ فأنا أنام بعينين مفتوحتين خوفاً من هجوم اللصوص علينا ليلاً"، مشيراً إلى أنَّ السور المحيط بالمدفن منخفض ويسمح بدخول أي شخص يمكنه التسلق.

يُذكّر أنَّ يونس وعائلته كانوا يسكنون منزلاً بحي السيدة زينب، لكنَّ صاحب المنزل طردهم عام 2000 بعد أن عجزوا عن دفع الإيجار الشهري الذي تبلغ قيمته 250 جنيهاً مصرياً (14 دولاراً أمريكياً) لمدة 16 شهراً. وباتت الأسرة تعيش في حجرةٍ صغيرة لا تتجاوز مساحتها 7 أمتار.

يقول يونس: "لدي ثمانية من البنين والبنات، وكان راتبي لا يتجاوز 500 جنيه شهرياً (28 دولاراً أمريكياً) في ذلك الوقت. لم أستطع دفع الإيجار ومعظم مصروفات الحياة اليومية. وكان علينا أن ننتقل إلى هنا، إذ يبلغ الإيجار 100 جنيه (5.60 دولاراً)، وبوسعي أن أدفعه".

وحين انتقل مع أسرته إلى المقابر عام 2000، كانوا يدفعون إلى متعهد القبر 40 جنيهاً (حوالي دولارين) شهرياً. وزاد الإيجار منذ ذلك الحين ليصل إلى 100 جنيه (5.60 دولاراً). ويعمل بعض متعهدي القبور في المنطقة على تأجير المدافن بصورةٍ غير شرعية.

وأعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2016 أنَّ حوالي 27.8% من سكان مصر يعيشون تحت خط الفقر، بحيث يبلغ دخلهم السنوي أقل من 6000 جنيه مصري (340 دولاراً أمريكياً).

ومنذ تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016 وانهيار قيمته أمام الدولار، ارتفعت الأسعار في مصر ارتفاعاً شديداً.

ومن دواعي السخرية أنَّ يونس يقف أمام ملصق عليه شعار "الشعب يأمر"، الذي أطلقه الإعلامي عمرو أديب للتشجيع على تخفيضات على المنتجات الأساسية.

ويقول يونس ضاحكاً: "لا يزال كل شيء باهظ الثمن"، ولا يحلم إلا بمنزلٍ يأويه ويحميه هو وعائلته. وبالنسبة له سيعادل هذا كل شيء.

لكنَّه يرى أنَّ حلمه بعيد المنال؛ فكيف له أن يسدد ثمن شقة كما يحلم، فلو كان يملك من المال 1000 جنيه (56 دولاراً) لاشترى بها طعاماً لأسرته، على حد قوله.

وعلى الجانب الآخر من شارع صلاح سالم الرئيسي في القاهرة، توجد مقبرة الإمام الشافعي. وهناك يتشارك محمد السعدي، البالغ من العمر 45 عاماً، مدفناً مع أسرة أخرى، وهو مدفن تُعَد مساحته كبيرةً نسبياً مقارنة بالمدفن الآخر.

ويعيش السعدي، الذي هو أبٌ لسبعة أطفال، هناك منذ 2005. وحين سكن المدفن في بادئ الأمر، كان الإيجار الشهري 60 جنيهاً مصرياً (3.36 دولاراً أمريكياً)، أمَّا الآن فقد أًصبح 120 جنيهاً مصرياً (7 دولارات).

ويقول السعدي: "لو كان معي ما يكفي لسداد إيجار لما سكنت وسط الموتى. في البدء كان الأمر صعباً؛ فلم أكن حتى أستطيع النوم، إذ كان تركيزي منصباً على أنَّني أسكن وسط الموتى. لكن بعد ذلك أدركتُ أنَّنا جميعاً موتى".

"عشتُ حياتي كلها في هذا القبر"


أخبرنا المتحدث باسم محافظة القاهرة خالد مصطفى أنَّ الحكومة تضع قضية سكان العشوائيات على رأس أولوياتها. وانصب حديثه على خطوط عريضة حول المشروعات التي تهدف لنقل سكان العشوائيات إلى إسكانٍ منتظم مثل الأسمرات جنوبي القاهرة أو غيط العنب غربي الإسكندرية، ورفض أن يصرح بأي أرقامٍ محددة لسكان المقابر في مصر.

يعمل مدحت، الناشط الذي رفض ذكر اسمه بالكامل خوفاً على سلامته، في منظمةٍ غير حكومية تقدم الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والدواء والخدمات الأخرى لسكان المقابر في منطقة الإمام الشافعي. ويشعر مدحت أنَّ الحكومة لا تولي انتباهاً لهذا القطاع من أبناء المجتمع المصري. ويقول في هذا الصدد: "يبدو أنَّ الحكومة نسيت أمر هؤلاء الناس منذ عقود".

وقد تعهَّدت حكومات متعاقبة في مصر بالتطوير والتغيير، لكنَّها لم تفِ بأي وعودٍ لها على الإطلاق.

ويشيع في أوساط الإعلام المحلي أنَّ المقابر حصونٌ للمجرمين وتجار المخدرات وتُستخدم كمخابئ، لكنَّ مدحت يرى أنَّ سكان المقابر لا يحظون باعتراف الآخرين وتقديرهم باعتبارهم بشراً لهم نفس الحقوق.

ويضيف العربي: "قضيتُ حياتي كلها في هذا المدفن؛ فتزوجتُ وأنجبتُ أبنائي هنا، وسأموتُ هنا".

تحميل المزيد