تتصاعد الأحداث متتالية، كاشفة عن أموراً كنا نعتقد سابقاً أنها من المسلّمات، وإن شئت فقل إنها من المحرمات عند العرب، قد يُصعق كل ذي لُب لِما يحدث اليوم من ماراثون التطبيع مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي لم يقتصر على المستوى الرسمي للدول العربية فحسب -على اعتبار أنه يميط اللثام عن الوجه الحقيقي لهذه الأنظمة المتعاونة مع الاحتلال منذ أمد- بل تجاوز العوام من الناس والإعلاميين والكُتّاب وغيرهم.
لقد سمع كثيرون ذلك الشاب السعودي وهو يكيل السباب والشتم للفلسطينيين وبألفاظ نابية، وكذا ما زعمه الإعلامي الكويتي؛ بكل وقاحة وتبجح، وبمنتهى السخف والسطحية من عدم وجود شيء اسمه فلسطين، وأن الصهاينة ليسوا مغتصبين؛ لأن أرض فلسطين -بزعمه- حق لبني إسرائيل ثابت حتى بنص القرآن الكريم.
إن المصاب جلل؛ فحين يحاول الفلسطيني جاهداً توضيح حقيقة وجوده والدفاع عن موروث أجداده، ومحاولة إثبات أحقيته بهذه الأرض من اليهود المحتلين حتى لأخيه العربي، كيف لهذا الواقع أن يحتم على الفلسطيني بقبول اليهود المحتلين في أرضهم أو بقبول التنازل عنها لهم؟ فمن حتمية التاريخ التي تقول بأن فلسطين لم تكن يوماً لليهود؛ ينقض هؤلاء الشرذمة من المجتمع العربي تاريخهم، وقوميتهم، وحضارتهم، وعقيدتهم كمسلمين.
إن مَن قرأ بعضاً من تاريخ فلسطين أو مَرَّ عليها مرور الكرام، يعلم قدرها ومكانتها في العالم القديم إلى يومنا هذا، ومن عصر أنبياء الله إبراهيم حتى محمد -عليهم السلام- يعلم يقيناً أن هذه الأرض لم تكن يوماً ملكاً لليهود.
فالتاريخ -وهو أستاذ شاهد- يقول: إن أول مَن سكن فلسطين هم الكنعانيون، وهذه حقيقة ثابتة ومؤكدة لا يستطيع أحد إنكارها حتى اليهود أنفسهم، ثم إن القبائل التي سكنت فلسطين بدءاً من الكنعانيين إلى اليبوسيين أتوا من شبه الجزيرة العربية، باستثناء قبائل "البالست" الذين أتوا من البحر من جزيرة "كريت"، وهم بالمناسبة سبب تسمية فلسطين بهذا الاسم، وهذا كان بمجمله قبل بعثة إبراهيم عليه السلام.
إن امتداد آفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني لمستوى غير مسبوق؛ راجع لعدة أسباب تتمثل في قمع صوت الشعوب، وما خلفته وراكمته الثورات المضادة من حثالة متصهينين أكثر ولاءً لليهود المحتلين من اليهود أنفسهم، فحين يكتم صوت الشعوب يطفو إلى السطح المرتزقة الذين يلهثون خلف كل ناعق من أولياء نعمتهم، فالتطبيع هو الصوت المخالف لإرادة الشعوب العربية، وهذه حقيقة صرّح بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حين قال: "العقبة الكبيرة أمام توسيع السلام لا تعود إلى قادة الدول حولنا، وإنما الرأي العام السائد في الشارع العربي"، كما أن مسارات التطبيع مع الكيان الصهيوني تسير في محاولة الحكام العرب وتابعيهم في الحفاظ على السلطة، إلى جانب خور إرادة الأنظمة العربية، وبذلك كل مَن يقف ضد الكيان الصهيوني يكون مصيره النفي عن الحكم بالسجن أو القتل، وقد اتبعت في هذا المضمار أساليب كثيرة ومتنوعة.
لقد استطاعت القوى المهيمنة على المنطقة تغذية النزاعات الطائفية، وإشغال المجتمع العربي بنفسه وبشؤونه الداخلية، فضلاً عن زراعة بذور الفتنة بين أقطاب السلطة في البلد الواحد، وهذا يعد من أسباب تراجع اهتمام الشعوب بالقضية الفلسطينية.
إن الرائد لا يكذب أهله، كامب ديفيد وأوسلو كانتا بداية مسلسل التطبيع، وما نلمسه اليوم هو إحدى ثماره في الحقيقة، وحين يصف رئيس وزراء الاحتلال "نتنياهو" ورئيس أركان حربه "أيزنكوت" بعض الدول العربية بالمعتدلة نثق تماماً بانحياز هذه الدول للمشروع الصهيوني الإمبريالي.
إن التطبيع في الحقيقة يهدف إلى تجميل صورة هذا المحتل وما قام به من مجازر بحق الفلسطينيين على مدار الصراع، من قتل لمئات الآلاف، وتهجير الملايين، وهتك وتدنيس للمقدسات، كما يهدف إلى تحطيم لوحة الصمود التي يشكّلها الشعب الفلسطيني بمداد الدم، وعبق الشهادة، ومرارة الأسر والفقد، ومعاناة الفقر، ومعابر الإذلال، التي لم تنَل يوماً من كرامته وعزَّته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.