قد أخسر الدنيا.. نعم.
لكنّي أقول الآن: لا.
هي آخر الطلقات.. لا.
هي ما تبقّى من هواء الأرض.. لا.
ما تبقّى من حطام الروح.. لا.
تتجسّد المشاعر شباباً ثائراً يجوبُ شوارع المدن ويعاند الطلقات عند الحواجز، تتزاحم العواطف وتتصارع في أعينهم، ولكن يبقى الخوف سيد الموقف هنا وهناك، ليس من الموت بل من الحياةٍ التي لا كرامة فيها، فنحن نحب الحياة إلى أن يبدو لنا الموت أكثر كرامةً منها.
لم أستغرب هذا النفير والغضب العام، فدمنا فوّارٌ -والتاريخ يشهد- إذا ما تعلّق الأمر بماء الوجه والقدس آآآآه القدس آخر القطرات فيه، القدس هويّتنا التي لن نكون بغيرها ولن تكون لغيرنا، قضيتنا التي نعيش لها ونعيش بها، قيامتنا من هذا الموت ومحرابنا الذي من دونه لن يتبقّى في الحياة متّسع للعبادة، أقول في نفسي وأنا الذي لم أزُر القدس يوماً حالي حال بقيّة الشباب في غزة، أقول: "أريدُ نافذةً من لجوئي تطلُّ عليكِ لا لشيءٍ، ولكن لأبقى على قيد الحياة".
ما يُحيينا ويقتلنا في الوقت نفسه هي قدرتنا الهائلة على التأقلم مع الأزمات والتكيّف بأدنى الإمكانيات للعيش، فلم نترك أزمةً إلا مررنا بها، ولم ندَع مصيبةً إلا وقعت فوق رؤوسنا، ثم تابعنا الحياة وكأن شيئاً لم يكن، هذه هي لعنتنا التي تحول دون تحقيق أهدافنا، ولكن ربّما كانت معضلة القدس هي الصفعة التي ستوقظنا من غفلتنا بعد أن انشغلنا عن قضيتنا، وتعيدنا إلى الطريق السليم في هذا الصراع بعد أن أهلكنا النفخ في قِربة السلام المثقوبة.
الآن بعد أن عرفنا أن الراعي هو الذئب، أصبح يخيّم علينا مزيجٌ غريبٌ، ظلمٌ يسرق منّا الحياة ووطنيةٌ تمنحها لنا، بعد هذا القرار تمّ الإعلان رسمياً عن إجهاض عمليّة السلام التي كنّا نراها عقيمةً من الأساس، وتم الوصول إلى آخر طريق المفاوضات المسدود بعد سيرٍ استمر ثلاثةً وعشرين عاماً، فبات الحل الوحيد أمامنا هو الانفجار والانتفاضة في وجه هذا الغول المغتصب حتى لو كلّفنا الأمر حياتنا، مفارقة سرياليّة عجيبة أن تكون الطريق الوحيدة للحياة هي ذاتها طريق الموت.
هكذا تكون الاتفاقيات والمعاهدات التي رضينا بغُلبها قد تجرّدت منّا، والمفترض الآن أنّنا أصبحنا على درايّة بها وبزورها، فإذا كنّا مؤمنين بقضيّتنا لن نُلدغ من جحرها مرة أخرى، وبهذا فإنّ أملنا الوحيد لنعيد السلام إلى مدينة السلام هو الخروج في وجه هذا الظلم والعدوان ثائرين مقاومين بكلّ ما في جعبتنا، فليس هناك ما نخشى عليه إن ضاعت القدس منّا، وليس هناك ما نخشى منه بعد الموت.
يعزُّ علينا أن نرى هذا الجمود والتهاون في الردّ من قِبَل الأنظمة العربية، ربّما من اعتاد الذل من الصعب أن يفهم منطق الأحرار؛ لذلك لا نعوّل كثيراً عليهم، ولكن كلّنا ثقة وإيمان بشعوبنا العربية الحرة التي هبّت رافضةً وغاضبةً في العديد من المدن والعواصم، كلّنا ثقة بالشعب الفلسطينيّ الجبّار الذي نشدُّ على يده أن يحافظ على ما تبقّى لنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.