كان ملحداً، لم يؤمن يوماً أن الله قد خلقه فأَحسَنَ خِلقَتَه، حتى إنَّ لعينيه سحراً غريباً، وزادته لحيته المرتبة جمالاً وكان شعره أسود جداً وعلى خدوده حبّاتُ الرمانِ، كان صديقي، وكنت عكسه، أؤمن بالله وبأنه خلقني وبأني سألقاه رَضيتُ أم أبيت.
لا أدري لِم كنت أتحدث معه كثيراً، كان المفضل بين أصدقائي، أتّصِلُ به إذا صادفتني مشكلة ولا أتَّصل بمحمود، صديقي الذي يرافقني كل جمعة إلى المسجد، أتصل به لينصحني، فحكمته لطالما كانت مفتاحاً للعديد من مشاكلي وأموري الشخصية.
وبرغم انطوائي كنت أجد في حديثي معه طعماً كذاك الذي تنتجه حبة الفيتامين وهي تذوب في فمي، كان مُختلفاً جداً.. فقد كان يبعثُ لي برسالة كل صباح فيها: "إنه أذان الفجر، قُم لِتناجي ربك" وكان هو يخرج للركض مع كلبه.
منذ أسبوع وأنا أزوره بشكل يومي، تغيَّرَت ملامحه كثيراً، لم تعُد تصلني رسائله الصباحية، والطبيب يقول: إن أعصابه لم تَعُد تقوى على أن تتحمل أوامر المخ حتى يتصرف طبيعياً.. وقد أخبَرَه بنهايته الوشيكة.
السرطان اللّعين.. اِنقضَّ على نخاعه الشوكي فلم يعد يقوى على التحرك، ولا على حمل هاتفه ليكتب لي "قُم يا صديقي إنه أذان الفجر"، ولا على الركض هو وكلبه (بوتشي).
قبل أن أدخل عنده في كل زيارة، كنت أقف بين يَدَي الله فأجعله بيني وبين تلك النافذة الزجاجية التي يظهر منها وهو مستلقٍ على سرير الموت، كان الله يرى وكان يسمع أنينه ودعائي، كانت الملائكة وكأنني أراها تحمل القلم وتنتظر بلهفة أن يقول: "ربّاهُ مَسَّنِيَ الضُّر" لكن شيئاً ما كان يمنعه من ذلك فيُفَضل الآه والأنين ويبتسم.
في آخر زيارة لي له، وضعتُ القرآن على صدره وهو في شبه غيبوبة، تلمّسه ببطء شديد وبهدوء وحرارةٍ لمسُتها عندما وضعتُ يدي على يده، قلتُ له إنني أحبه وسأشتاق إليه وأردته أن يلجأ إلى الله حتى يحجز لي مكاناً هناك معه، يُقال إن الخليل يشفع لخليله، وإن الصديق سَيُجالس صديقه عند الحوض، وإنني أحبه..
ابتسم وقال: "أنتَ تعلمُ أنني أحبك، وأحببتك، وسوف أحبك، وأعلمُ أني أَموت، وأعلمُ أنك تحبني" وضَغَطَ على يدي ببطء هو ما اكتسَبَ من جهد، وأشار إلى ورقة عند رأسه، حملتها، وودعته وخرجت.
كانت الورقة عبارة عن رسالة بِجُمَلٍ مائلة، وكلمات غير مرتبة، كانت قصيراً جداً، وعميقة جداً.
قال لي فيها في آخر سطر: (إذا كُنتَ على حق، ودينك حق فسوف تشفع لي هناك، وإن كنتُ على حق فقد كان لي شرف معرفتك قبل أن نتحول بعد موتنا إلى زهور وردية.. أحبك).
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.