عندما صدم القطار الطفلة مدينة حسيني، 6 سنوات، هرعت أسرتها إلى شرطة مراقبة الحدود الكرواتية طلباً للمساعدة، حاملين جسدها الضعيف بين أيديهم.
لكنَّ رجال الشرطة أنفسهم أمروا هذه الأسرة الأفغانية المُنهَكة تقرير صحيفة The Guardian البريطانية بالعودة في اتجاه صربيا عبر طرق السكك الحديدية وسط الظلام دون تحذيرهم من احتمالية أن تكون هناك قطارات ما زالت سائرة، حسبما قالت مسلمة حسيني والدة الطفلة مدينة. لكن لم يكن لدى الأسرة البائسة المذعورة خيارٌ آخر.
كانت واقعة "الطفلة مدينة" إحدى الكوارث الناتجة عن أزمة متفاقمة على حدود أوروبا، تقول عنها منظمات الإغاثة والنشطاء إنَّها تسبب معاناةً لا تُوصف، إذ عَلِقَ الآلاف من المهاجرين واللاجئين في صربيا، حيث لا يملكون تقريباً أي فرصة للنجاح في الحصول على حق اللجوء وبصيص من الأمل في التحرك بشكلٍ قانوني، ويلجأون إلى وسائل متهورة لمحاولة العبور إلى داخل الاتحاد الأوروبي.
حسب صحيفة The Guardian التي سردت القصة فقد تصدَّت قوات شرطة الحدود في كلٍ من كرواتيا والمجر وبلغاريا للأمر من خلال إجبار أي أشخاص تلقي الشرطة القبض عليهم على مغادرة الحدود والعودة من حيث أتوا، في كثير من الأحيان باستخدام العنف، وذاك بحسب منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وأطباء بلا حدود.
الموت في حدود البلقان
وكانت مأساة أسرة حسيني، التي حاولت الوصول إلى كرواتيا بعد قضاء نحو عامٍ في صربيا أملاً في العبور بشكل قانوني إلى المجر، هي الأخيرة ضمن سلسلةٍ من الوفيات وإصابات الأطفال والكبار على حدود دول البلقان.
وقال أندريا كونتينتا، مستشار الشؤون الإنسانية لمنظمة أطباء بلا حدود في صربيا: "ما زلنا نشهد العواقب السلبية لسياسات الاتحاد الأوروبي بشأن الحدود الخارجية له. وتواصل قوات الشرطة تلك تعريض الأشخاص للخطر، ولا توجد طريقة آمنة للسفر".
وانتهى اليوم بمأساة بعدما بدأ بأمل، إذ قرَّرت مسلمة حسيني أن تسافر صحبة ستة من أطفالها العشرة يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعد سماعها أنَّ الحدود مع كرواتيا أصبحت مغلقة بإحكامٍ لكن أقل مما كانت عليه في الشهور السابقة.
وقالت مسلمة إنَّ أسرتها، التي كانت تضم 4 أطفال أقل من 10 سنوات، نجحت في شق طريقها إلى كرواتيا من خلال الاندفاع عبر الحقول وفوق وتحت الأسوار الشائكة، لكنَّهم وقعوا في قبضة الشرطة بعد ساعاتٍ قليلة واستقروا في حديقةٍ عامة تحت البطانيات.
اسمحوا لنا أن نبقى هنا هذه الليلة
كانت مسلمة حسب The Guardian سعيدة برؤية رجال الشرطة في البداية، متوقعةً أن يجرى اصطحابهم إلى قسم شرطة للحصول على طلب اللجوء بشكلٍ رسميٍ، وهو حقهم وفقاً لقوانين الاتحاد الأوروبي. لكن بدلاً من ذلك، حسبما قالت مسلمة، جرى اقتيادهم إلى خط السكك الحديدية وأُمروا بالسير عائدين إلى صربيا.
وقالت مسلمة: "توسلت إليهم قائلةً: إذا كنتم لن تقبلونا أرجوكم اسمحوا لنا أن نبقى هنا هذه الليلة. كنا مرهقين ونشعر بالبرودة بالفعل بسبب هذا الطقس ومعنا أطفال صغار، لكنهم تعاملوا معنا بقسوة ووحشية".
من جانبها، نفت السلطات الكرواتية أن تكون قدم مدينة وأسرتها قد وطأت أرض البلاد قبل موتها، أو أن يكون لشرطة الحدود أي دور في دفع الطفلة صاحبة الست سنوات إلى طريق القطار، وقالوا إنَّ الأسرة كانت تعبر إلى بلادهم من صربيا وإنَّهم كانوا في الجانب الأبعد من الحدود حين صدمها القطار، لكنَّ حالة الوفاة سُجِّلَت في كرواتيا لأنَّ الأسرة هرعت في هذا الطريق طلباً للمساعدة.
كرواتيا: نحن بريئون
قال وزير الداخلية الكرواتي، رانكو أوستويتش، في بيانٍ: "نُشدِّد على أنَّ طريقة تعامل شرطة الحدود الكرواتية لم تسهِم أو تتسبَّب بأي شكلٍ من الأشكال في الحادثة ومقتل الطفلة"، مضيفاً أنَّ تعامل بلاده مع كل المهاجرين واللاجئين يخضع لقوانين الاتحاد الأوروبي.
لكنَّ العديد من منظمات الإغاثة وحقوق الإنسان وثَّقت مئات الحالات لأشخاص يملكون الحق القانوني في طلب اللجوء جرى إجبارهم على العودة عند حدود الاتحاد الأوروبي في كلٍ من كرواتيا والمجر وبلغاريا، وباستخدام العنف في كثيرٍ من الأحيان.
بداية 2017 حذَّرت منظمة أطباء العالم من الوسائل التي تستخدمها الشرطة في "الإعادة القسرية" للمهاجرين واللاجئين، والتي تشمل الضرب، ورش رذاذ الفلفل، والهجوم عليهم بالكلاب.
هناك عدد من التقارير عن أشخاص أُمِروا بالعودة عبر طرق السكك الحديدية، حيث ماتت مدينة. وقال كونتينتا: "أبلغنا العديد من مرضانا أنَّ الشرطة الكرواتية اصطحبتهم إلى خط السكك الحديدية وأمرتهم بالعودة من خلاله. كانت رواية متكررة نسمعها".
ولوهلةٍ بعد فرملة القطار بصوتٍ مرتفع، كان تركيز مسلمة مُنصبَّاً على شقيقة مدينة الكبرى، التي سقطت على الأرض بقوة بينما كان القطار يمر أمامهم مسرعاً، ثم أدركت أنَّ مدينة – الطفلة الثرثارة السمينة التي كانت محببة للجميع – مفقودة.
كان هناك تدافع محموم بين أفراد الأسرة وسط أضواء الهواتف في الظلام، ثُمَّ وقعت أنظار شقيق مدينة الأكبر عليها مستلقيةً على الأرض. كانت مسلمة تأمل أن تكون ابنتها فاقدةً للوعي فقط، لكن سرعان ما اتضح أنَّها كانت تعاني إصاباتٍ بالغة.
وقالت مسلمة: "حملها رشيد (شقيقها) وكانت هناك دماء في كل مكان. التقطتُها منه ورأيتُ أنَّه لا توجد أي علامة على الحياة".
وأضافت أنَّهم عندما هرعوا مرةً أخرى إلى الشرطة، تجاهل رجال الشرطة توسُّلات رشيد للحصول على المساعدة الطبية وأمروا الأسرة بركوب شاحنةٍ واستغرقوا وقتاً في التأكُّد من أنَّ كل من أرادت الشرطة ترحيلهم موجود على متن الشاحنة.
ولذا احتضنت مسلمة جسد ابنتها المصاب أثناء رحلة كانت ستمتد للأبد وانتهى الأمر مبكراً للغاية. وفي مكانٍ ما على الطريق، توقفت الشاحنة ونقلت الممرضات مدينة إلى سيارة إسعاف، حيث عملن على إسعافها لبعض الوقت، ثُمَّ انطلقن بالسيارة متجاهلاتٍ توسُّلات مسلمة للبقاء مع ابنتها.
وقالت مسلمة باكيةً: "قلت لهم: أريد الذهاب مع طفلتي أينما أخذتموها، وسألتهم: أين سترسلونها وحدها، أريد أن أكون معها، ومن حقي أن نكون معاً".
وكانت المرة التالية التي ترى فيها مسلمة ابنتها بعد أيام قليلة، عندما كانت الجثة باردةً للغاية وكان الطين والدماء لا تزال تلطخ جبينها.
كانت مدينة طفلة مضحكة ولطيفة
كانت الأسرة قد غادرت منزلها بعدما تلقى الوالد، رحمة شاه، تهديدات بسبب عمله مع الشرطة. وانتقلت الأسرة في البداية إلى العاصمة الأفغانية كابول، لكنَّ الخطر تبعهم إلى هناك، ولذلك غادروا إلى أوروبا مطلع عام 2016 ووصلوا إلى صربيا بعد نحو عام.
وكانت مدينة طفلة مضحكة ولطيفة، وتمثِّل إلهاماً للأسرة كلها طوال الرحلة الطويلة. وقالت شقيقتها الكبرى نيلاب، 17 عاماً: "كانت تضحك دائماً وكانت الشخص المحبب للجميع. كانت تتحدث كثيراً لكن دوماً كانت لطيفة للغاية. وكانت أمي تسألها: "لماذا تتحدثين كثيراً، لكنَّها كانت تبتسم فحسب".
ولم تتمكن نيلاب من تخطي ذكريات جثة شقيقتها عندما أعُيدت للأسرة، مصابةً بالكدمات وملطخةً بالطين. وقالت نيلاب ودموعها تترقرق في عينيها: "تعاملوا معها كما لو كانت حيواناً، كما لو كانت كلبة. مجرد جسد صغير ولم يعاملوها كإنسان".
وفي الأيام التي تلت الحادثة، كانت الأسرة مضطرة للكفاح من أجل معرفة مصير الطفلة مدينة والوصول إلى معلوماتٍ عن جثتها وحق دفنها وفقاً للتقاليد الإسلامية.
وأُعيدت الأسرة إلى صربيا في الليلة التي ماتت فيها مدينة دون التأكيد على المكان الذي سيجري نقلها إليه أو ما إذا كانت ميتة أو حتى تحديد رقم هاتف للاتصال به.
قُوبِلت الأسرة بتعاطفٍ أكثر قليلاً على الجانب الآخر من الحدود، واحتُجِز أفرادها في غرفةٍ بقسم شرطة تحتوي على طاولة وكراسي فقط حتى صباح اليوم التالي، وكانوا لا يزالون ملطخين بدماء مدينة ويشعرون بالبرد والجوع واليأس والحزن.
واستغرق الأمر أياماً ليتأكدوا أنَّها قُتِلت ويستعيدوا جثتها، ولم يحدث ذلك سوى بمساعدة ودعم منظمات مثل أطباء بلا حدود وHelpRefugees (مساعدة اللاجئين).
وحينما عادت جثة مدينة إليهم في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، أُمِرت الأسرة بدفنها فوراً. ولم تكن هناك أي إجراءات ورقية، وكانت هناك 4 زجاجات مياه فقط لتغسيل الجثة وفقاً للشعائر الجنائزية الإسلامية.
وقضت الأسرة أكثر من 6 ساعات في مواجهة متوترة مع المسؤولين في مقبرة البلدية، إذ قال والد مدينة: "قلتُ لهم إنَّني أُفضِّل أن تدفنونا جميعاً هنا عن أن تجعلوني أدفنها (مدينة) بهذا الشكل".
وافقت الأسرة على الدفن كرهاً
لكنَّ السلطات الصربية هددت الأسرة كاملةً بالترحيل إذا استمروا في الاعتراض، حسبما قال والد مدينة، ثم وصل مسؤولو الأمم المتحدة وحذَّروا الأسرة من أنَّ السلطات الصربية قد تُقدِم على ترحيلهم دون موافقتهم إذا رفضوا إجراءات الدفن.
ولذا، وافقت الأسرة على الدفن كرهاً. وقال والد مدينة: "كنتُ أصرخ وأبكي عندما أخذت زوجتي وابنتي الجثة إلى التغسيل، لأنَّ الشتاء كان قد بدأ وكانت الأجواء مظلمة بالفعل عندما دُفِنَت جثتها في الأرض. سأبكي الأمر في قلبي إلى الأبد لأنَّني لم أمنحها جنازةً لائقة".
ويقع قبر مدينة على حافة مقبرة إحدى البلديات في الأطراف المنعزلة للبلدة الحدودية التي قضت يومها الأخير بها، على حافة مساحة مسطحة واسعة من الحقول. ولا توجد أي علامة تشير إلى القبر، لكنَّ الأسرة تصلي داعيةً أنَّها لن تُنسى.
وقال والد مدينة: "رجاءً، انشروا رسالتنا بقدر استطاعتكم، لأنها (مدينة) أتت إلى هنا مُحمَّلةً بكل آمالها".
وما زال الوالد في انتظار الحصول على شهادة وفاة ابنته.