على منوالٍ يوميٍّ وعلى مدار أكثر من 3 أعوام، أخذ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة يقصف أهدافاً تابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق وسوريا، بمجمل نحو 300 ألف ضربةٍ جوية. لكن في يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، لم تُشَنّ ولا ضربة جوية واحدة.
وقبل أسبوعٍ من ذلك، كان الجيش العراقي قد استولى على آخر منطقةٍ من الأراضي الخاضعة لسيطرة ميليشيات داعش. وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنَّ 400 جندي من قوات المارينز المُرسَلين إلى سوريا لمقاتلة التنظيم سيعودون إلى موطنهم.
تبدو تلك الأحداث كما لو كانت تؤذن بهزيمة داعش، وبنهاية الخلافة التي أعلنها لنفسه. لكنَّ المعركة لم تنته بعدُ، حسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأميركية.
فلا يزال على عاتق القوات العراقية والسورية مهمة تأمين حدودهم المليئة بالثغرات، والتي كانت دولة داعش الصغيرة تتوسَّع على امتدادها، وكذلك لا تزال القوات تطارد عناصر الميليشيات في صحراواتٍ مليئة بالوديان.
ومن جانبه، فإنَّ الجيش الأميركي هو الآخَر لم يُحدِّد أيَّ دورٍ سينهض به الآن وقد انتهى القتال، مع أنَّ مسؤولين أميركيين وعراقيين قد لمحوا إلى أنَّ عملية انسحابٍ كبرى للقوات الأميركية أمرٌ محتمل.
خطة داعش الدموية
القضية الأكثر إلحاحاً هُنا، هي أنَّ العراق وسوريا يستعدان لموجةٍ من العُنف الإرهابي، على غرار الهجوم الذي أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص في مسجدٍ بشمال سيناء في مصر، أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
وتتَّجه القوَّات العراقية الآن لاتِّخاذ دورٍ بوليسي سيتطلَّب منها جمع معلوماتٍ استخباراتية وتفرقة الخلايا النائمة.
العودة للجذور
وقال الكولونيل رايان ديلون، المتحدِّث باسم التحالف القائم على محاربة داعش بقيادة الولايات المتحدة، إنَّ القوات الأميركية تُعاوِنهم بالعمل مع قوَّات الشرطة ووحدات الجيش المُكلَّفة منع الميليشيات من تنفيذ هجماتٍ في أماكنٍ خضعت من قبلُ لسيطرتهم.
وقال: "نتوقَّع تماماً أن يعودوا إلى جذور بداية التمرُّد".
لكنَّ، ومن جهة أخرى، فإنَّ السياسات غير المتوقَّعة لسوريا والعراق، والتنازعات على المناطق المُحرَّرة، قد تُخرِج جهود محاربة الإرهاب عن مسارها.
وفي العراق، توَّرطت قوَّة نخبوية مُدرَّبة أميركياً لمحاربة الإرهاب في مواجهةٍ سياسية وعسكريةٍ بين الحكومة العراقية والجهود الكردية في سبيل الانفصال.
وكان مُتوقَّعاً من وحدات قوَّة محاربة الإرهاب العودة إلى مقارها الإقليمية والممتدة عبر العراق بعد أن هدأت حدة القتال ضد داعش. لكنهم في المقابل، حسبما قال الفريق سامي العريضي، وهو قائد واحدة من شُعَب القوَّة الثلاث، قد تفرَّقوا على امتداد شمال العراق إلى مناطق يجري التنازع عليها بين بغداد وحكومة إقليم كردستان.
وقال مشيراً إلى وجودهم بالقرب من مناطق كردية: "إنَّ هذا عملنا الجديد".
إنَّ حلَّ تلك الأزمة سيسمح لوحدات مكافحة الإرهاب بالعودة لدورها الأصلي، وهو أن يكونوا مانعاً ضد هجمات داعش، كذلك الهجوم الواقع في سبتمبر/أيلول الماضي 2017 والذي أسفر عن مقتل أكثر من 80 حاجّاً شيعياً شمال العراق. وتؤكِّد مثل تلك الاعتداءات الخطر الذي ما زال يُمثِّله داعش رغم خسائره الإقليمية.
مساحة هائلة
ويقول القادة العسكريون إنَّ تأمين حدود العراق مع سوريا والمناطق الصحراوية على جانبي الحدود خطوةٌ حاسمة من أجل الحيلولة دون إراقة المزيد من الدماء.
وقال القادة العراقيون إنَّ جيش العراق والميليشيات الشيعية الحليفة له قد تمكَّنوا من تأمين نحو 5400 ميل مربع (8700 كيلومتر مربع) من صحراء غرب العراق، لكنَّ مساحةً مماثلة ما زالت تنتظر التأمين.
وقال الجنرال قاسم المحمدي، قائد عمليات غرب محافظة الأنبار، إنَّ تلك المنطقة تتضمَّن ممراتٍ للتهريب ومخابئ للميليشيات تصل إليها القوات العراقية للمرة الأولى منذ 14 عاماً.
وقال: "كانت تُستخدم المنطقة كنقطةٍ للجماعات الإرهابية للتحرُّك والتدرُّب فيه. إنَّ أكبر تحدٍّ يواجهنا الآن هو كِبَر حجم هذا القطاع. من الصعب أن يُمشَّط بشكلٍ كامل".
وقد كان الجيش العراقي يستخدم قوَّاته الجوية لتدمير مواقع الميليشيات في ذلك القطاع الفسيح والخالي من السكان. وقال ديلون إنَّه لم توجد حاجة للهجمات الجوية الأميركية هناك، ما أثار أسئلة جديدة عن الدور الأميركي طويل المدى في المنطقة.
ولطالما أثار وجود القوات الأميركية غضب الميليشيات الشيعية المدعومة من قِبل إيران، وطالب قادتهم بانسحابٍ أميركي بعد أن سقطت خلافة داعش.
وقال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إنَّه يتوقَّع أن تبدأ القوَّات الأميركية بالانسحاب بعد أن وصلت لأكبر عددٍ لها وهو 5200 جندي، في وقتٍ سابق من هذا العام 2017، لكنَّه يريد من بعضها البقاء لتدريب القوَّات العراقية على جمع المعلومات الاستخباراتية وتبادل المعلومات فيما بينها.
وقال العبادي في مقابلةٍ صحفية أُجرِيَت معه خريف العام الجاري (2017): "إنَّه ليس في مصلحتنا، ولا مصلحة الدول الأخرى في المنطقة، أن يلم الإرهابيون شملهم من جديد".
وأكد أيضاً أنَّ العراق لن يحتفل بالنصر على داعش حتى تُطرَد الميليشيات من الصحراء الغربية وتُؤمَّن الحدود مع سوريا.
الأسد وإيران
وفي المقابل، فإنَّ الوضع بسوريا أكثر قتامة منه في العراق. فقد أشارت إدارة ترامب إلى أنَّ القوَّات الأميركية قد تُسنَد لها مهمة مفتوحة الأجل هُناك حتى يتمَّ التوصُّل لحلٍ سياسي للحرب السورية. وتتضمَّن تلك العملية المستعصية الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاءه الروس والإيرانيين، وجماعات المعارضة المدعومة من قِبل الولايات المتحدة.
ويُحذِّر الخبراء وقادة المعارضة من أنَّ داعش لا يزال يُمثِّل تهديداً قوياً بسوريا، وأنَّ المناخ السياسي المُمزَّق في البلاد قد يمنح الميليشيات فرصةً لاستعادة قواها من جديد.
وقال توبياس شنايدر، وهو مُحلِّلٌ أمني دولي: "تحب الحكومات أن تتحدَّث عن داعش مستشهدةً بمقاييس، وأرقام، وعددٍ من المدن المُستولى عليها. ما ننساه هنا هو أنَّ داعش قوةٌ سياسية وأيديولوجية، وهذا يخبرنا بشيء عن العالم الذي كان الناس في سوريا والعراق يعيشون فيه. نحن لم نقترب ولا خطوةً واحدة من حلِّ تلك السياسات".
وفيما تستعيد حكومة الأسد سيطرتها على أراضٍ من سوريا، تظل عناصر حُكمها المكروهة كما هي؛ إذ يقبع الآلاف من الأشخاص في سجونٍ حكومية بائسة، وقد زادت حدة اللامساواة الاقتصادية على أثر اقتصاد حربٍ تكافئ الموالين للحكومة فيما يعيش معظم الشعب على الإغاثة.
وقال مصطفى سيجري، وهو مسؤولٌ تابع للواء المعتصم المدعوم من قِبل وزارة الدفاع الأميركية، وهي جماعة معارِضة تحارب داعش: "لن تختفي الجماعات الإرهابية طالما ظلَّت الظروف التي سنحت لهم بالازدهار كما هي". وإذ تتمركز جماعته الآن في قطاعٍ تؤمّنه تركيا شمال سوريا، فقد واجهت سلسلةً من الهجمات المضادة على مدار العام الماضي (2016).
عملاء داعش السريون
وقال مُحلِّلون إنَّ تورُّط جماعات توكّلها إيران والولايات في الحرب ضد داعش بسوريا قد يمثِّل مشاكل في القريب العاجل.
وقال شنايدر: "أعتقد أنَّنا نستخف بمدى خضوع جميع تلك المناطق، التي نقول إنَّها تحت سيطرة قوى مركزية، في الحقيقة، لسيطرة قوى محلية، وإنَّه ليس من الصعب عليها أن تُبدِّل ولاءها".
وقال نيكولاس هيراس، من مركز الأمن الأميركي الجديد ومقرُّه واشنطن، إنَّ حقيقة أنَّ قوى خارجية هي مَن قضت على داعش تُعد أمراً على الولايات المتحدة وقواتها الحليفة التوقُّف عنده فيما يركِّزون على إعادة الاستقرار إلى المناطق التي استولوا عليها.
وقال: "لا بد أن هذا الأمر يُقلِق الولايات المتحدة وشركاءها في سوريا؛ لأنَّه يخبرنا إلى أي درجةٍ يُمكن لداعش أن يزرع عملاء له، من أيٍّ من السوريين المحليين، داخل الهياكل الأمنية والحكومية التي يجري الآن بناؤها لاستبدال حُكم داعش".
ما يثير القلق في ذلك على نحوٍ خاص، هو مناطق شرق سوريا حيث تمركز مقاتلو داعش في السابق.
وقال هيراس إنَّ تلك المنطقة، المجاورة للعراق، "ستغرق في بحرٍ من الاضطرابات؛ إذ سيُصعِّد داعش من التمرُّد على مدار الأشهر والأعوام المقبلة".