وُلدت فكرةٌ بمثابة وطن يجمع شتات القلوب بعدما كُتب علينا قَدَرٌ، بات فيه أكبر أحلامنا أن نلتقي مَن عشنا معهم أجمل أيامنا وأصدقها "طفولتنا العذبة"، هكذا سمتها صاحبة الفكرة ومؤسسة الوطن البديل الذي يجمعنا كفلسطينيات تعارفنا صغاراً في الحي أو المدرسة وفرقتنا الظروف، فصارت كل واحدة منا في بلد وأصبح لكل واحدة منا وطن تحتمي به في المنفى، اسمه العائلة.
برنامج تواصل اجتماعي كان الحاضنة الافتراضية التي أعادت وصل ما قُطع وبناء ما تهدم، لا تحتاج الإقامة فيه إلى شروط تعجيزية، جواز سفرك فيه هاتفك المحمول أياً كان نوعه، ورقمه هو رقم هاتفك.
بعد سنوات طويلة من الغياب والانقطاع، عدنا لنجتمع عبر مجموعة خاصة في برنامج الواتساب، حيث أتاح لنا اللقاء الذي عجزت أن توفره لنا دولنا العربية مجتمعةً، نتشارك من خلاله يومياتنا وهمومنا ومشاكلنا وأحلامنا وآراءنا في كل ما يدور حولنا وخبراتنا التي حصدناها عبر سنين طويلة لم نلتقِ فيها.
واحدة في الدنمارك تقيم فيها منذ 5 سنوات، غادرت فلسطين عروساً تبحث مع زوجها عن حياة جديدة خارج أسوار غزة المحاصرة، تركت دفء العائلة والوطن هائمةً في صقيع الدول الاسكندنافية، علّها تحصل على جنسية أجنبية تكون لها مصدر قوة لا وصمة ضعف وهوان، "أماني" تُحدثنا عن شروط الحصول على الجنسية الدنماركية، ترسل لنا صور "آدم" و"سمة" وهما يلعبان في الثلج، والكثير من الفيديوهات داخل فصول تعلُّم اللغة وغيرها مما يؤهلها للتعايش مع المجتمع، وكثير من الحكايات عن صديقاتها الجدد علّهم يُنسونها مرارة الغربة، لا تزال تحتفظ بضحكتها التي تدخل القلب فتنسيه كل هَمّ.
توأم الروح التي أعرف بها وتعرف بي، لا يراها أحد إلا ويسألها عني ولا يصادفني أحد وحيدةً إلا ويبادرني بالسؤال عنها.. إنها "نها"، مثال الفتاة المجتهدة التي لا تعيقها الظروف، تبني من الصعوبات سُلماً تصعد به نحو النجاح، أنهينا معاً الدراسة الجامعية، وكغيرنا من الخريجين في قطاع غزة لم نحصل على فرصة عمل، خلقت "نها" لنفسها الفرصة التي تعينها على إكمال مشوارها التعليمي، فهي لم تكتفِ بشهادة واحدة فالتحقت بالجامعة لدراسة مجال آخر؛ فالعلم بالنسبة لها غاية تصقل شخصيتها لا وسيلة للعمل فقط.
تَشاركنا صورها كمُعلمة داخل المجموعات الدراسية لطلبة المدارس الذين تساعدهم على تحسين مستواهم الدراسي، وكطالبة داخل الحرم الجامعي في تخصصها الجديد. هي فاكهة المجموعة، التي بوجودها يعم الفرح ويجتمع الكل حول مائدة الضحك لينال حصته منها.
عادت إلى فلسطين من مصر مع والدها ووالدتها المصرية بعد مجيء السلطة الفلسطينية، تميزت بيننا بلهجتها المصرية القريبة للقلب، كنا ننتظر بداية كل عام دراسي؛ لتحكي لنا عن إجازتها التي قضتها هناك.
وبعد الثانوية العامة، كانت الخيارات أمامنا جميعاً محدودة، فعدد الجامعات في قطاع غزة أقل من أصابع اليد الواحدة. أما "رنا"، فكانت خياراتها أغنى وأكثر، فقد استطاعت أن تعبر بوابة معبر رفح لتفتح أمامها أبواب الجامعات المصرية، ولأنها الأصغر انتقلت العائلة للاستقرار هناك لتلتحق بالجامعة، فكان آخر لقاء لنا بها عام 2005، قابلتها بعد 7 سنوات، حيث مكثت 3 أيام في القاهرة، استرجعنا معاً ذكريات الأيام التي قضيناها معاً في ليلة لم ننم فيها حتى مطلع الفجر.
كان لدينا الكثير من القصص التي نريد أن نتشاركها، أحدّثها عن سنوات الجامعة وعن صديقاتنا اللاتي أحمل لها منهن الكثير من الأشواق، فتحدثني هي عن الحياة في مصر، عن كل ما فاتني من تفاصيل.. ودّعتها وسافرت، تركتها (رنا) وسألتقي إياها مرة أخرى "أم محمود"، بعد أن تزوجت شاباً مصرياً وأصبحت أمّاً لذلك الطفل الجميل الذي تملأ صوره محادثاتنا، فهو بالنسبة لها محور الحياة وسعادتها.
قبل أن تدخل عقدها الثالث بثلاث سنوات، تركها مع ثلاثة من الأبناء تحمل لقب أرملة، لم يمهله المرض أن يشاركها تربيتهم أو أن يصحبهم في يومهم الدراسي الأول إلى المدرسة! كان الموت أقرب إليه، وكان القضاء أقوى من كل الدعوات التي رفعتها إلى السماء ترجو من الله أن يشفيه وألا يتركها وحدها.
فكل هذا الازدحام من حولها لا يعني شيئاً، كل تلك الوجوه لا تهمها، كانت تريد وجهه فقط حتى وإن كان شاحباً أرهقه المرض، لم يكن مجرد شخص، كان الطمأنينة والأمان، كان جبر الخاطر الذي تحاول من يومها أن تجبره لنفسها بنفسها من أجل هزار وغزل وأحمد، هكذا تخبرنا عنه وتشرح لنا كم تغيرت الأيام من بعده وكيف تحولت الحياة لقاسية.
أقسى ما في الأمر، أن لا أحد يعرف حقاً كم تعاني، يمكننا أن نكون واقفين بجنبها ولا نعرف حتى ما بها، لكن الله لن ينسى ألمها وعزلتها، لن يتركها هشة مبعثرة، سيجعلها تنهض ولو على قدم واحدة.
"فتحية"، التي تنشر طاقة من الإيجابية بيننا، تشغل وقتها بلوحاتها وأعمالها الفنية اليدوية، تُشاركنا كل هذه الصور فنرى فيها من القوة والإبداع الكثير، هي الأقوى بيننا، كيف لا وهي الأم والأب، رسالتها لهم دوماً: أنا هنا ثقوا بي.
صاحبة السعادة، الأكثر نشاطاً واجتماعية بيننا، لها الفضل في أن جمعتنا بعد كل هذه السنوات، فاجأني تواصلها معنا وكيف استطاعت الوصول إلى الجميع، من أين أتت لها الفكرة التي لم تخطر لنا؟! كيف عدنا بالقرب رغم البعد.. "سحر"، التي أنشأت لنا هذه المجموعة التي صارت دار ندوتنا، نجتمع فيها لنحكي عن كل جديد وكأننا نعيد معرفتنا بعضنا ببعض، فالسنوات الطويلة لم تترك أحدنا على حاله.
لم تكتفِ سحر باللقاء الافتراضي؛ بل عملت على أن تجمع كل الموجودين داخل فلسطين في منزل إحدى الصديقات؛ لقضاء يوم معاً، رتبتْ لذلك كله، وقد كان تشاركنا معهن من خارج فلسطين عبر مكالمة مصورة، كنا معهن بالصوت والصورة، وكانت أرواحنا تطوف مِن حولهن حينها أصبح جزء من الحلم حقيقة.
أنا أيضاً، يمكن اعتباري من المحظوظين الذين استطاعوا اجتياز بوابة معبر رفح قبل أن يوصد في وجه 2 مليون إنسان، انتقلت للإقامة في قطر مع إخوتي، عشت هنا سنوات وألفت الناس وألفوني، ووجدت لنفسي عملاً يعينني على غربة الوطن، لكن رحلتي لم تنتهِ، ولا أعلم متى تنتهي.. ارتبطت بشاب مصري الجنسية، لم تكن هذه التدوينة لترى النور لولا وقوفه بجانبي وتشجيعه لي على الكتابة، حديثي الدائم معه عن صديقاتي جعله يقترح عليَّ الفكرة ويلحُّ عليَّ بالاستمرار في الكتابة.
وها نحن ننتظر إتمام مراسم زفافنا في دولة تسمح لكلينا بدخولها، لأنتقل بعدها للإقامة معه في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكأنها أحجية تحتاج من يفك طلاسمها.
هذه هي حياتنا وقصتنا التي لا تختصرها الكلمات، ورحلة الحياة التي زادت من أعمارنا هموماً وأوجاعاً، مشوار لن ينتهي إلا إذا كتب الله لنا أن نلتقي مرة أخرى كل الصديقات في مكان واحد هو فلسطين، ونضع هواتفنا جانباً؛ فقد أدت دورها وشكراً لها؛ لأنها كانت الخطوة التي بدأنا بها طريق الألف ميل، سنتعانق يومها ونضحك، يلمس بعضنا بعضاً، وتغمر كل واحدة منا الأخرى بفيض صدق وصداقة ما زال ينبض رغم طول السنين وبُعد المسافات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.