بينما تكشف التقارير الواردة من سيناء أن معظم المصلين الذين لقوا حتفهم في مذبحة المسجد لم يكونوا يتشاركون الشعائر الصوفية التي استهدفها المُهاجمون، فإن المخاوف تتصاعد من أن تلجأ قبائل سيناء إلى حمل السلاح وتشكيل صحوات أو ميليشيات لمحاربة داعش بنفسها.
ونقل تقرير لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني عن خبراء تحذيرهم من أن يتوسع الجيش المصري في نهجه العدواني ضد السكان المحللين رغم أنهم المتضررون الأساسيون من الهجوم، الأمر من الذي شأنه مفاقمة الأوضاع السيئة، حسب التقرير.
ليسوا صوفيين
من جانبها، لفتت صحيفة التايمز البريطانية إلى أن التقارير الواردة الثلاثاء 29 نوفمبر/تشرين الثاني، تشير إلى أن معظم المصلين الذين لقوا حتفهم في مذبحة المسجد المصري، كانوا قد فرّوا من القتال الجاري بمناطق أخرى في شمال سيناء.
وقال السُكَّان الذين حاورهم صحفيون محليون، إن الكثير من المصلين -أو أغلبهم- في يوم الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، الذين تعرضوا لهجوم جهاديين يحملون أعلام داعش السوداء، لم يكونوا من سُكَّان المنطقة، فضلاً عن أنهم ليسوا بالضرورة صوفيين.
ويقول رجلٌ طلب أن يُدعى أبو سلامة، لموقع "مدى مصر" الإخباري: "يظن هؤلاء أنهم يحاربون الفكر الصوفي، لكن ليس كل من في المسجد يتبعون الصوفية. 70% من رواد المسجد لا يتبعونه، و70% من المصابين هم مهجَّرون من رفح والشيخ زويد".
وتقع مدينة رفح على الحدود مع قطاع غزة، وقد سوِّيت أجزاءٌ منها بالأرض من قِبل الجيش المصري؛ في محاولةٍ لوقف تهريب الأسلحة والبضائع، حسب الصحيفة البريطانية
ويقول مجدي رزق، الذي أُصيب في ساقيه وفقد ابنه في الهجوم: "فرَّ هؤلاء الناس من الموت وهُجِّروا فقط ليجدوا الموت في انتظارهم هنا!".
وقد لقي أكثر من 305 أشخاصٍ مصرعهم، من بينهم 27 طفلاً، في الهجوم الذي نفذه 30 متطرفاً تقريباً، حيث وصلوا إلى قرية الروضة وحاصروا المسجد وفتحوا النيران عليه. وقد قطعوا الطرق المؤدية إليه قبل أن يُلقوا بداخله القنابل اليدوية، واستمروا في إطلاق النار 30 دقيقةً حتى حين وصلت السيارات لنقل المصابين إلى المستشفى.
ويُقدَّر تعداد سكان قرية الروضة بنحو 800 نسمة، ما يعني أن بعض العائلات قد فقدت جميع رجالها.
تهجير
وكانت محافظة شمال سيناء قد شهدت تهجيراً للسكان على امتدادها؛ بسبب وحشية هجمات داعش وشراسة ردود فعل الحكومة.
وكجزءٍ من هجومه على الصوفية المنتشرة في مصر، والتي لا تُمارس غالباً بشكلٍ منفصل عن الشعائر السُنيَّة، قتل داعش شيخاً في الـ90 من عمره العام الماضي (2016). كما قُتل شيخان آخران في مارس/آذار الماضي 2017. وكانت عمليات القتل التي صُوِّرت وبُثَّت على الإنترنت، قد بُرِّرت على أنها عقابٌ على السحر.
وتعد وسائل الإعلام الأجنبية محظورةً في شمال سيناء، ويقول الصحفيون المستقلون إنهم قد أُوقِفوا مراراً فيما كانوا يحاورون الناجين. لكن المراسلين شهدوا تدمير قرىً بأكملها، في محاولةٍ لقمع التمرد الذي انتشر في أجزاء أخرى من مصر.
وتمتلك مصر جيشاً جراراً لا تنقصه الخبرة في مواجهة الإرهاب، وهو يعتبِر النصيحة انتقاداً والانتقاد خيانةً. لكن، حين أتى الرئيس السيسي للسلطة، لم يكن التمرد في سيناء يزيد على بضعة جهاديين، بينما هو الآن يرتكب مذابح جماعيةً. ربما تدرك مصر أنها بحاجةٍ لكل مساعدةٍ يمكنها الحصول عليها، حسب تعبير الصحيفة البريطانية.
البديل للسياسات الفاشلة
وتشير المذبحة التي راح ضحيتها 309 أشخاص في مسجدٍ مكتظ بسيناء الجمعة الماضي 24 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى السياسات الأمنية المصرية الفاشلة في وجه التمرُّد المُسلح الآخذ في الاتساع.
ولكن الأخطر أن وحشية الهجوم الكبيرة قد تفتح الباب أمام قوةٍ قبلية تضطلع بدورٍ قيادي في هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في سيناء، بحسب ما نقله موقع "ميدل إيست أي " عن محللين.
وفي ظل كون مسجد الروضة معقلاً لقبيلة السواركة، التي تُعَد واحدة من كبريات القبائل الـ11 في سيناء، أثارت التطورات شبح ظهور صحوةٍ قبائلية لتخليص المنطقة من المسلحين.
رد قبائل سيناء
بعد فترةٍ وجيزة من الهجوم، أصدر إبراهيم العرجاني، أحد شيوخ قبيلة الترابين، بياناً يدعو فيه رجال القبائل كافة إلى الاحتشاد في هجومٍ مضاد بالتنسيق مع الجيش.
وكتب في البيان: "ندعو كل رجال وشباب قبائل سيناء للانضمام إلى إخوانهم في منطقة البرث؛ للتنسيق لعمليةٍ كبرى مع الجيش للقضاء التام على هذا الإرهاب".
وأضاف: "لن تنام أعين الرجال حتى تطهير أرضنا كاملة من آخر تكفيري يمشي بأقدامه على أرض سيناء الطاهرة. سنقتلكم ولن تأخذنا بكم رأفة".
ومع أنَّ الحديث عن تحرُّكٍ عسكري قبلي ضد المسلحين في سيناء ليس جديداً؛ إذ أصدرت قبيلتا الترابين والسواركة بياناتٍ نارية في وقتٍ سابق من هذا العام (2017)، تدعو فيها للاحتشاد ضد المنتمين إلى داعش- فإنَّ حجم وهول هذا الهجوم أفقدا مرتكبيه أي تعاطفٍ من الإسلاميين الساخطين، وعلى نطاقٍ أوسع السكان المحليين المهمشين.
هدف المسلحين
حتى وقوع الحادثة، كانت "ولاية سيناء" تستهدف بالأساس الأقباط المسيحيين وأفراد القوات الأمنية، في حين تجنَّبت عموماً القتل العشوائي للمسلمين السُنّة.
لكن باستهدافه المسجد، فإنَّ التنظيم قد وجَّه رسائله إلى كلٍ من الطرق الصوفية والسكان القبليين الأوسع نطاقاً في سيناء، وهم الذين تجنَّبوا في الغالب الانحياز إلى الدولة أو المجموعات المسلحة العاملة في صحراء شبه الجزيرة.
ويقول محللون إنَّ استهداف عائلة الجرارات، المنتمية إلى قبيلة السواركة، في مسجد الروضة، كان عملاً مقصوداً؛ لأنَّ القبيلة لديها التزامٌ صوفي قوي ومعروفة بعدائها العلني لداعش.
وقال مهند صبري، الباحث في شؤون سيناء ومؤلف كتاب "سيناء: عماد مصر، حياة غزة، كابوس إسرائيل": "من الواضح أنَّ الهجوم كان يهدف إلى ضرب هدفٍ يبدو كأنَّه منافس قبلي وأيديلولوجي لداعش والتيارات التكفيرية في سيناء".
ومن خلال هذا الهجوم، يُوصِل المسلحون أيضاً رسالةً إلى بدو سيناء الأوسع نطاقاً، مفادها أنَّ مساعدة الحكومة المصرية فكرة سيئة.
يساعدون الجيش
ويقول ناصر ودادي، وهو محللٌ ومستشار مستقل يركز عمله على شؤون القبائل والتطرف والإرهاب: "هناك أفراد من السواركة كانوا يساعدون الدولة المصرية بفاعلية. وهذا الهجوم يرسل رسالة، مفادها أنَّ الدولة لا تستطيع حمايتهم".
وسلَّط الخبراء الضوء أيضاً على السهولة التي نفَّذ بها المسلحون الهجوم رغم نشر مصر منذ 2013 قواتٍ في سيناء أكثر من أي وقتٍ مضى منذ حرب 1973 مع إسرائيل.
فرصة
على الرغم من أن الهجوم يُسلِّط الضوء على فشل استراتيجية السيسي الأمنية واستراتيجيته لمكافحة الإرهاب، فإن الحادثة قد ترتد بنتائج عكسية على مرتكبيها، من خلال دفع قبائل سيناء أكثر إلى جانب الدولة وخلق حافز لأولئك الذين لم يتعاونوا في السابق مع الدولة كي يفعلوا ذلك الآن.
فوفقاً لودادي، كانت الدولة ستحظى بفرصةٍ للتغلب على التهديد المسلح المتنامي في سيناء لو أنَّها قبلت بمقترحاتٍ سابقة من القبائل للاعتماد على متطوعين محليين من أجل القيام بعمليات الاستطلاع مع وحدات الجيش.
ويقول إنَّ الدولة كان يمكنها أيضاً الاستفادة من قوةٍ محتملة إضافية لقبيلتي السواركة والترابين تكمن في طبيعتهما العابرة للحدود؛ إذ تمتد عائلات القبيلتين إلى ما وراء حدود مصر وصولاً إلى غزة والأردن.
الاستفادة من حماس
وقال ودادي: "الآن ومصر تتمتع بعلاقاتٍ أفضل مع حماس -التي بها أعضاء من قبيلة السواركة- يمكن أن تثبت تلك الطبيعة العابرة للحدود أنَّها أداةٌ مفيدة لمعركة مكافحة الإرهاب؛ لأنَّ أعضاء القبائل في الأردن وغزة سيكونون مستعدين للمساعدة".
ومع أنَّ المحللين يأملون أن يتخلَّص الجيش المصري وأجهزة المخابرات من عقيدة الحرب التقليدية، وتكتيكات الأرض المحروقة، ونقص التنمية في سيناء، فإنَّهم يخشون أنَّ ذلك أمرٌ مستبعد.
وبدلاً من ذلك، لا يزال معظم المراقبين يائسين من إحداث السيسي تغييراً في سياساته بسيناء واستراتيجيته لمكافحة الإرهاب.
فقال شادي حامد، الزميل البارز في معهد بروكينغز: "لا شيء يوحي بأنَّ نظام السيسي لديه رؤية طويلة الأجل للتعامل مع التمرُّد في سيناء".
وأضاف: "كانت تلك هي القضية منذ اليوم الأول: ما إذا كان بمقدور نظامٍ قمعي كهذا أن يُغيِّر تكتيكاته بدرجة كافية وأن يعالج بجديةٍ العوامل السياسية والاقتصادية الكامنة التي تُغذِّي مشاعر الغضب والاستياء من الحكومة المركزية".
القوة الغاشمة
وبعد لحظاتٍ من الهجوم، تعهَّد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بـ"الثأر باستخدام القوة الغاشمة"، وحلَّقت المقاتلات المصرية في سماء سيناء، مُلقيةً قذائفها التي سحقت المركبات التي استُخدِمت في الهجوم، كما وصف النائب العام المصري، نبيل صادق، المشهد المروع، يوم السبت 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، باستخدام التفاصيل التي توصل إليها الطب الشرعي.
وفي حين ادعى السيسي أنَّ الحادثة كانت "انعكاساً لجهود الجيش المصري في مواجهة الإرهاب نيابةً عن العالم"، أشار مُحلِّلون إلى تكرر التكتيكات الفاشلة من الدولة في مواجهة التمرُّد المسلح الآخذة في الاتساع بسيناء.
قال مهد صبري إنَّ "سلسلة الأحداث كلها تُمثِّل تكراراً لما شهدناه من قبل.. هجومٌ دموي يُسفِر عن مقتل العشرات، يتبعه خطاب من جانب السيسي وبيان من الجيش يعلن فيه أنَّه قتل إرهابيين ودمَّر مخابئ".
وأضاف: "ومن المُعبِّر للغاية كيف تعهَّد السيسي باستخدام (القوة الغاشمة) كما لو أنَّها لم تُستخدَم في مختلف أنحاء سيناء على مدار 4 سنوات وتسبَّبت في سقوط عشرات الضحايا المدنيين، ومليارات الدولارات من الخراب الاقتصادي وتشريد الآلاف من الأسر دون أي نجاحٍ حاسم أو مستمر في الحرب ضد الإرهاب".
ومنذ عزل الجيش الرئيس السابق محمد مرسي في يوليو/تموز 2013، ازداد العنف بصورةٍ كبيرة في شمال سيناء، وهي محافظة متخلفة هُمِّشت طويلاً وتحدّها إسرائيل وغزة.
صفقات سلاح بمليارات
ومؤخراً، وبينما كان السيسي يستقبل لفيفاً من القادة الأجانب في القاهرة، حيث وقَّع صفقاتٍ بمليارات الدولارات من المعدات العسكرية المتقدمة، كان المسؤولون العسكريون الأميركيون يحاولون إقناعه بتخصيص موارده -بما في ذلك 1.3 مليار دولار من المساعدات الأميركية السنوية- لشراء معدات وتقنيات أكثر ملاءمةً لمحاربة التمرُّد.
لكنَّ المسؤولين الأميركيين يقولون إنَّ السيسي وجنرالاته فضَّلوا شراء الأسلحة الثقيلة لقواعدهم الموجودة حول النيل، وفق ما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.
وأكَّد شادي حامد أنَّ "الجيش المصري ببساطةٍ، سيئ في عمليات محاربة الإرهاب ومكافحة التمرُّد، وكثيراً ما يشكو المسؤولون الأميركيون من عدم رغبة الجيش المصري في إعادة النظر وتهيئة وسائله".
تدمير قرى بأكملها
بالنسبة لمهند صبري، الباحث في شؤون سيناء، فإنَّ أكثر السيناريوهات المستقبلية إثارةً للقلق هو "نمطٌ محتمل لاستهداف جموع المدنيين الذين لا يرضخون بوضوحٍ للتنظيمات الإرهابية".
لكنَّ مصر تواصل النظر إلى سيناء عبر منظورٍ عسكري، مُنتهِجةً مقاربة عدوانية تجاه سكانٍ محليين نافرين.
وقد دمَّر الجيش المصري قرى كاملة، في حين يُقدِّم القليل من أجل حل مشكلات المنطقة الاجتماعية والاقتصادية العميقة، بما في ذلك البطالة المزمنة، والأمية، وضعف فرص الحصول على الرعاية الصحية.
وكثيراً ما أصابت الروايات الكثيرة عن التعذيب والتصفيات خارج نطاق القانون من جانب الجيش، فضلاً عن التكتيكات العسكرية العشوائية، ضحايا مدنيين وغرست مشاعر استياء واسعة.