متى سننتصر؟

ولنا أن نسأل في الختام: هل ينتصر هؤلاء أم ينتصر عليهم ماضيهم؟ هل تنتهي مأساة الأجيال ويبدأ عهد رخاء ثابت؟ هذا ما ستجيبنا عليه يقيناً السنوات القليلة القادمة حين تضع الحرب أوزارها في أغلب مناطق توتر هذه المنطقة، وحين تتغير كثير من النظم السياسية الفاشلة المفشلة، وحين ترشد هذه النخبة الباحثة عن طريقها نحو تأسيس مشاريعها ومزيد تشبيك علاقاتها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/29 الساعة 05:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/29 الساعة 05:12 بتوقيت غرينتش

نشأ العرب على معتقد أنّهم ملّة ذات أفضليّة، لها من مقومات القوة ما يجعلها الأولى على البقية دائماً، مهما بلغت من الضعف ووصل بها الحال من السقوط.

وهي فكرة ملازمة لمن نشأ في هذه المنطقة من العالم، يقول فيها الكبار للصغار دائماً وأبداً: نحن العرب.. نحن المسلمون.. نحن الأمّة.. ونحن أصحاب الحق في كل شيء والموعودون بالنصر القادم.. نحن أحباب الله وأولياؤه، فينا الصالحون ومنا الفاتحون.. العلم صنعتنا، والجهاد شرعتنا، والقرآن لغتنا، ولا مناص من قيامتنا.

يقولون ذلك حتى في أحلك اللحظات ظلاماً، وفي أكثر الأيام ضعفاً، وفي أشد المواقف خسراناً.. حتّى عندما لا يكون هناك صلاح ولا فتح ولا علم، وهي بالتأكيد ثقافة أجيال ومنطق قرون وخاصية مشتركة بين أيديولوجيات العرب عامّة.

وهي أفكار نشأ عليها الذكر كما الأنثى، وتناقلتها مؤسسات المجتمع كابراً عن كابر، بلا نقصان، بل بزيادة ربما جيلاً عن جيل بروايات لا تنتهي عن بطولات القدامى وقدسيتهم ووعود لا تتوقف عن النصر الموعود للقادمين وخوارقهم.

وبين القادمين والقدامى، يعيش المعاصرون يوتوبيا التمكين وأحلام المعجزات ويرددون في سبيلهما تراتيل الطهر والبطولة والشرف، رغم توقف الحاضر أو على الأقل حركته بلا تقدم.

وبين القادمين الذين سيكونون مشابهين للقدامى حسب هذا التّصوّر، يرى المعاصرون أنفسهم مختلفين بل حتّى منبتّين؛ فلا هم يشبهون الأجيال الصالحة السالفة، ولا هم يعرفون كيف ومن أين سيأتي أبطال المستقبل الخارقون، أولئك القابضون بالنواجذ على السنن، والفاتحون الجدد للعالم، كما تقول النبوءات.. وكأنهم في منزلة بين المنزلتين، أو في أربعين التيه فرضها عليهم تآمر الإمبريالية والعدوّ الظاهر والباطن، أو هكذا قال الشيوخ وأصحاب النظريات من حكام العرب ومستكتبيهم.

وبينما يعيشون الواقع الذي لا يشبه ما ترويه الكتب وأقاصيص "السلف"، والذي يبدو بلا مبالغة بعيداً عن أن يكون محفّزاً للغد المشابه للأمس، تظلّ الأسئلة تطرح على شباب عربيّ هو في أغلبيته صادق وإلى حد كبير مؤمن بقضيته، أو ما يعتقد أنها قضيته على الأقل؛ لكنه إيمان الضعيف، واعتقاد البسيط، وصدق العاجز، عجز من لا يعرف من أين يبدأ ولا كيف ينطلق.

وأنا في هذا النّص لا أنتوي تقديم وصفة للانطلاق ولا حتّى رؤية للمستقبل، فما زلت أبحث وأظنّني مطيل البحث عن قضيتي أيضاً.

غير أنّ لي في هذا المسار وعلى هذا الطريق الذي فرض الجغرافيا والتاريخ اشتراكه علينا، وجهات نظر وآراء لعلّي سأورد بعضها فيما يلي.

وأبدأ من حيث بدأت الشكوك تراود هذا الإيمان، فإنّ العربي في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين ربي ونشأ على ما سلف من أفكار؛ لأنه خضع لتجاذب متناقضات: الدكتاتورية بتجفيفها ينابيع ثقافة أجداده، والحداثة بما لا تقدمه من وصفة خاصة بالعرب أو المسلمين دون غيرهم، والعائلة ومعها المجتمع بما يغرسانه من شبه وعي بكينونة غائبة حاضرة غير واضحة المعالم، لكنها ساكنة في القلب، مثيرة للوجدان كلما اقترب الوعي منها.

ممّا لا شكّ فيه أن اضطرار هذا الشباب العربيّ للتعايش مع منطق المتناقضات أنشأ أجيالاً كثيرة الاختلاف داخلها وعن سابقها، خصوصاً مع طفرة التكنولوجيا وسرعة تغيّر الأحوال وانفتاحها على ما يحدث حولها وفي العالم.

وإنّ هذا الاختلاف جيّد من نواح وسلبيّ من نواح أخرى، فلنا في داعش وأمثالها على اليمين وعبدة الشيطان وأمثالهم على اليسار مثال عن هذه السلبية، وهي أحد أكبر التحديات التي تواجه مستقبل منطقتنا.

أمّا آثاره الإيجابية فأراها في تطلّع نسبة أخرى غير قليلة من العرب وبشكل غير مسبوق لفرض مكان لها في العالم وبحثها عن مواءمة هذه المتناقضات، كما في نفس الوقت نبشها في تراث بيئتها لنقاشه والاستفادة مما ثبت ورسخ منه، ولأول مرة كما يبدو على مدى التاريخ العربي نبذ ما لا يصلح وعقلنة ما اعتقد لقرون أنه حقيقة مهما بدا خرافة أو وهماً.

إنّ هذه الأمة، وأعني بها ساكني شمال إفريقيا والشرق الأوسط، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافة أجدادها، لكنها أصبحت إلى حد ما واعية أن ثقافة الأجداد هذه أضحت قاصرة عن تقديم الإجابات لأسئلة القرن الحادي والعشرين، وأن الخرافة والوهم والجهل المقدس كانت مكونات أساسية في تشكيل هذه الثقافة لقرون.

لذلك ظهرت وتظهر نخبة مختلفة متصالحة مع الماضي بأنه لم يكن بذلك القدر من الروعة، ومع المستقبل بأنه لن يصنع من خوارق أو ظهور أبطال ملائكيين أو شبه أنبياء جدد ينقذون شرذمة المؤمنين الضعيفة والمغلوبة على أمرها، وكأنها تقول: ضعفي ليس مني، ونصري ليس من داخلي.. تواكل واتكال غير منطقي على الغيب والأمانيّ بدأت إرهاصات حضارية جدّية على تجاوزها بعد أن كانت الظاهرة الأصلية الواصمة لنا.

المسألة ثقافية فكرية بحتة في عمقها؛ إذ لا يصنع عام الناس سوى أفكارهم، ولا يبني علاقاتهم سوى أفكارهم، ولا يؤسس لغدهم سوى أفكار يومهم.

وحيث أصبح هذا اليوم إلى حدّ ما جاداً في التخلص من أساطير أمسه، متخيّلاً غده أمراً واقعاً مادياً عقلانياً -خصوصاً بالمقارنة مع الجار الشمالي أو حتى الأمم البعيدة التي نراقبها ونحتك بتجربتها ولو عن طريق الانترنت- فإنّ الجهود التي كانت موجهة نحو صراعات الهوية والأيديولوجيا وبكائيات ولطميات المظلومية وأهواء نصر "عصبة الحق" ومجموعة "المؤمنين" الذين لا يرون في مصائب يومهم سوى "تمحيص" لا متناه واختبار سماويّ لا متوقّف، بدأت بالتحول إلى منطق وحيد ممكن اليوم يقول ببساطة: لا مستقبل لمن لا حاضر له، ولا حاضر لمن كان ماضيه كاذباً.

أقول ما أقول وأنا أعلم يقيناً أن هذه النخبة التي أذكر قد لا تكون تكونت بالقدر الكافي، ولا هي جهزت الجاهزية المطلوبة، ولا هي ربما مجتمعة أو متضامنة أو منسجمة، لكن لك أن تتخيلهم كالباحثين عن الطريق وسط زحمة الفوضى، ولك أن تضع على كل منهم علامة مضيئة لتلاحظ بعد قليل تقاربهم والتقاءهم مهما ابتعدوا وتقوّيهم ببعضهم مهما اختلفوا.. يجمعهم في ذلك ولذلك جدّيتهم وصدق أنفسهم في تحصيل المعرفة النقية وجودة فعلهم وحرصهم على الأهمّ في كلّ مساعيهم: إعلاء القيمة.

ولنا أن نسأل في الختام: هل ينتصر هؤلاء أم ينتصر عليهم ماضيهم؟ هل تنتهي مأساة الأجيال ويبدأ عهد رخاء ثابت؟ هذا ما ستجيبنا عليه يقيناً السنوات القليلة القادمة حين تضع الحرب أوزارها في أغلب مناطق توتر هذه المنطقة، وحين تتغير كثير من النظم السياسية الفاشلة المفشلة، وحين ترشد هذه النخبة الباحثة عن طريقها نحو تأسيس مشاريعها ومزيد تشبيك علاقاتها.

وبنفس القدر من الموضوعية أقول: إنّني غير متأكد من نجاحها القريب رغم يقيني بألمعيتها وقدرتها ما تغلبت على معوقاتها، وهي كثيرة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد