لا شيء يستنفر قلم حدَث في ريعان صباه، سوى إحساس بالجمال.
وللجمال في تارودانت سحر ما اجتذب الصبي محمد أمين، فدعا بقلم كي يقتنص الأفكار قبل أن تشرد أو تغيب حين تأفل شمس المناظر التي خلبت لبَّه أو استرعت اهتمامه، وهو يسير متطاوساً بين حديقة تفور من قلبها مياه "نافورة" تحوطها مساحات خضراء تسرّ الزوار، وتبهج القاطنين، وقصور وقصبات عتيقة تحكي بصمتٍ قصص الراحلين.
وافينا سوق المدينة في عز صباح صيفي معتدل الحرارة، ركنت السيارة على جنب، ألقيت نظرة فاحصة على السور القديم الذي يحتضن، كما المدن العتيقة، أسرار التجار وآثار السلاطين ومواطئ أقدام الباشا البيضاوي الشنقيطي الذي طارت سمعته في الآفاق، وعرفت عنه ما لم أعرفه عن تارودانت التي عرفت به وعرف بها عند بعض أهل الصحراء الذين يصلهم بنسب.
آثرت التنقل بين آثار المدينة وسككها صحبة خريت عارف بعجرها وبجرها، لم أحِر حلاً أشفى وأسهل من استئجار عربة "الكوتشي" التي تجعل من هذه المدينة توأماً لمراكش الحمراء، فسائسو أو سائقو العربة التي تجرها البغال، وإن حدستُ غلبة الطمع عليهم، أفضل مَن سيعرفني على أهم ما يستحق أن يزار في هذا المكان الذي أحمل بين جوانحي سؤالاً عن صلته برجالٍ من شنقيط، فلقد ذكر بول مارتي في كتابه عن إمارة الترارزة أن الرواية الشفوية تنبئ عن مقدم "تشمشة" من تارودانت، وليس يبرر ذكرها اللافت في شعر الحسانية إلا ذاك الحبل الذي يصل صحراء الملثمين بسوس منذ زمن المرابطين.
سلك بنا سائق الكوتشي دروباً متعددة، وانتهزها فرصة ليعرفنا على أسماء أبواب تارودانت، ما مررنا به منها وما حاد عن طريقنا، عدّد لنا أسماء باب الخميس، وهو منسوب للسوق التي كانت تنعقد كل خميس، ويقصدها الناس من كل المداشر والدواوير المجاورة، وباب تارغونت، وباب بونونة وباب القصبة، ثم باب الزركان الذي أثارت فضولي طريقة نطقه باسمه، فعاجلته بسؤال عن سبب تسميته بهذا الاسم الذي تشي موسيقاه بينابيع صحراوية لا تخطئها أذن من ملأ سمعه لسان الرجال الزرق، فلاذ بصمت برهة، ثم أردف: والله لا أدري، كذا وجدنا الناس يدعونه!
لم يخمد شهابَ الفضول جوابُ الرجل الذي يبدو على غير حظ كبير من التعلم، فلذتُ بالإنترنت، بعد أيام غير طوال ظل خلالها السؤال يتلجلج ويجلجل في الرأس المشبوب ولعاً بتحري أخبار الأولين، ليس من الزرقان فقط، بل من كل الذين جاسوا خلال هذه الديار السوسية المتاخمة للصحراء التي بها وُلدت، وبحر بطحائها اكتويت، فعجت على موقع تَسمّى بهذا الاسم الفريد المرشد إلى بغيتي: أبواب المدن المغربية، وطالعت فيه كلاماً منسوباً إلى باحثين من المتأخرين تفرقت بهم سبل تخمين جذور تسمية "الزركان"، فقد أورد "الأستاذ حنداين في {كتاب تارودانت حاضرة سوس} أن هناك عدة تفسيرات لاسم هذا الباب، فالبعض يذهب إلى أن هذا الاسم له صلة ما بقبيلة صحراوية مرابطية تسكن المنطقة، والبعض الآخر يسميه {الزرقان} وهو نوع من الطيور، إلا أن الأصل المستساغ للاسم هو أن {الزركان} كلمة أمازيغية أتت على الصيغة العربية، فإيزركان جمع أزرك، ومعناه الطاحونة، وهناك معطيات تؤكد هذه الفرضية كوجود معاصير للزيوت في المنطقة، ويتكرر هذا الاسم في المغرب كثيراً، فمرزكان اسم أمازيغي ينقسم إلى كلمتين: صاحبة إيزركان وهي المطاحن، تعبير عن مكان لمصنع المطاحن – كما عند الأستاذ محمد شفيق".
ورغم أن تأويل التسمية يشي بتماشج (أمشاج) العرب والأمازيغ، وتردد المعنى عند المتأخرين بين مَن يرده إلى سنخ صحراوي ومن ينميه إلى جذر أمازيغي، فإن المعوّل عليه أنني تحسست في الاسم حين نطقه صاحب الكوتشي شيئاً من الألفة التي تبعثها بعض الكلمات، على حد تعبير ما لارميه، بل إن الألفة التي تحسستها وسط سكك المدينة، ليست نزوة قدحتها أحاسيس السير على خُطى كثير من أهل الصحراء الذين تقبع قصصهم في سراديب ذاكرة المدينة العتيقة، وإنما هي شعور عميق يحمل الزائر على الاعتقاد أنه يسير تحت أسوار مراكش العتيقة، ويسمع شقشقة لسان أهلها ولكنتهم التي لا تخفى، ولأمر ما سألت دليلنا عن سر هذا التعالق بين مراكش وتارودانت التي تشبهها في كثير من السمات، فما تردد في القول: إن تارودانت هي أم مراكش! فقلت بشيء من الاستغراب: كيف تكون هذه أماً خرجت تلك من رحمها، وهي أبهى وأجمل؟ فردّ بحزم المستيقن من صحة خبره العجيب: تارودانت بُنيت قبل مراكش بقرون، وإنما ذهب أهلها إلى مراكش بعد أن صارت عاصمة كبيرة! وقرّوا هناك، حيث التجارة النافقة ومآرب أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.