لم يكن رجال ونساء التعليم بحاجة لفيديو ورززات الشهير؛ ليتأكدوا من أن أوضاعهم وظروف اشتغالهم أضحت كارثية حتى تدحرجوا لمستوى تحولوا فيه إلى مجرد أكياس لِللكم يتسلى بهم ويفرغ فيهم فئة من المراهقين عدوانيتهم، غير أن حضور إثبات بالصوت والصورة على ما يكابده كثير من المدرسين في فصولهم الدراسية، وانتشاره على مواقع التواصل الاجتماعي جعل الموضوع ينتقل من موضوع فئوي ضيق إلى نقاش مجتمعي واسع.
ومع ذلك، فإن هذا السجال قد ضل طريقه، وتم تمييعه من طرف بعض وسائل الإعلام التي اعتادت جلد رجال ونساء التعليم، والتي سعت للتبخيس من أي تضامن والتقليص منه، كما استغلته لخلق نوع من الإثارة في موضوع لا يحتمل هذا الابتذال الذي تمارسه لإنعاش متابعة منابرها الفاشلة، حيث التحامل المستمر قاعدة لا تحيد عنها، فالأستاذ دائماً متهم، سواء حين يعتدي أو يعتدى عليه.
هذه الإشارات السلبية التي يتلقفها المجتمع من تلك المنابر بعد أي خبر تحوله إلى مجرد رجع صدى لكل ما تبثه وتجعل قطاعات كبيرة منه تنخرط في هذا التحريض، وهنا لا يمكن تجاهل دور السلطة في هذا الوضع المختل، فكما تضفي هيبة مصطنعة على القضاة ورجال السلطة بشكل عام، فهي في المقابل تحط من قدر المعلمين ومن كرامتهم بممارساتها السلطوية تجاههم، التي تصاعدت بوتيرة غير معقولة في السنوات القليلة الماضية.
الحقيقة أننا أمام واقعة كشفت عن سوء نية مبيتة وعن خلل عميق في فهم الشأن التعليمي وأدواره في المجتمع، ذلك أن البعض يتعامل مع الشغيلة التعليمية كأنها كتلة موحدة، وأن أي خطأ من بعضها يعمم ويحمل للجميع لكأنها عناصر دخيلة على المجتمع المغربي، طبعاً هذا المنطق لا يستخدم على أخطاء غيرهم.
في ظل هذا الوضع البائس الذي يعتبر فيه رجال التعليم بمثابة طائفة منبوذة ومنبعاً للشرور كلها، كان طبيعياً أن يسارع البعض مباشرة إلى اتهام أستاذ ورزازات باستفزاز التلميذ، وكأن هذا مبرر لذلك الفعل الشنيع، هذا إن صدقنا مزاعم الاعتداء اللفظي المسبق على التلميذ، الذي يتم الترويج له إعلامياً؛ إذ لا يتصور في عرف البعض أن المدرس يمكن أن يُظلَمَ فهو الظالم الأبدي، والمسؤول عن كل نقيصة.
المثير أن هذا المنطق المشوه منطق انتقائي، ففي الوقت الذي يرفض فيه الجميع العنف مهما كانت مبرراته ودوافعه، يغدو مبرراً في حالة المؤسسات التعليمية حصراً، ويكفي أن نذكر بالكم الهائل من الاستفزازات والإهانات التي يتلقاها المواطن في الإدارات المغربية، والتي يكظم غيظه تجاهها، ونادراً ما يحتج ضدها خوفاً من إشهار بطاقة "إهانة موظف" في وجهه.
لا يطالب رجال التعليم بمعاملة تفضيلية لهم داخل المجتمع، أو الحق في أن يمنحوا صكاً مفتوحاً لفعل ما يشاءون دون حسيب أو رقيب، كل الذي يطلبونه الحق في مزاولة مهنتهم في ظروف لائقة وآمنة تحفظ كرامتهم أسوة بجل موظفي الدولة، فهل يطلبون المستحيل؟
نعم لا أحد ينكر وجود دخلاء على التعليم يسيئون لأنفسهم وليس للقطاع، لكن المفارقة أن هذه الطينة من الأساتذة نادراً ما تتعرض للاعتداء؛ لأن التلاميذ المشاغبين يهابونهم، وفي المقابل يستأسدون على أكثر الأساتذة وداعة، في تجسيد عفوي لمبدأ "الحكرة" السائد في الدولة والمجتمع.
ثمة انطباع قاصر يجب تصحيحه مفاده أن الشغب لا يظهر إلا عند الأساتذة غير الأكفاء، وهذا غير صحيح، فالكفاءة وحدها غير كافية، قد يكون هناك أساتذة يتوفرون على مهارات تواصلية عالية إلى جانب كفاءتهم، ويحققون نجاحات كبيرة في تدبير فصولهم الدراسية، إلا أن السمة الغالبة هي المعاناة في خلق جو تعليمي في الظروف الراهنة، وهذا أمر عادي؛ حيث إننا تجاوزنا مرحلة الشغب العفوي الذي كان يتعايش المدرسون معه، مراعاة لطبيعة المتعلمين المتقلبة في سن المراهقة، وما ينتج عنها من أزمات، والتي يمكن معالجة جزء منها داخل المؤسسات التعليمية، إلى شغب مرعب يمارسه بعض محترفي العنف من متعاطي أقوى أنواع المخدرات.
ولنتذكر فقط أن نسبة مهمة ممن يمارس الشغب في الملاعب الوطنية تلاميذ، فكيف إذن سيكون حال من يقضي عطلة الأسبوع في مداعبة السيوف والاعتداء على ممتلكات الناس، والانخراط في حروب دموية مع أقرانه، أو في مواجهة الشرطة حين يلتحق في بداية الأسبوع بفصله الدراسي بعد غزواته الأسبوعية.
المؤسسات التعليمية اليوم تعيش حالة من الفوضى، ناتجة عن عجز وزارة التربية الوطنية عن احتضان أفواج من المتعلمين وحسن توجيههم، مما أدى إلى خلق شكل جديد من العطالة، وهذه المرة داخل الفصول الدراسية من طرف فئة غير قادرة على مسايرة الأجواء التعليمية، ولا تجد ضالتها فيما يقدم إليها من مناهج، وفي نفس الوقت أضحت عاجزة عن الخروج للعمل في السن التي بلغتها، وما يفاقم أزمتها أنها أصبحت فريسة للمخدرات المنتشرة على أبواب تلك المؤسسات، وسط صمت أمني مطبق، الشيء الذي يجعلنا أمام ظواهر معقدة يستحيل التعايش معها، فضلاً عن معالجتها داخل المدارس.
المدارس إذاً مؤسسات تعليمية وليست مصحات نفسية حتى نأتي لها بأعقد المعضلات النفسية والاجتماعية لتعالج فيها، أما التربية الوقائية فمسؤولية مجتمعية مشتركة بين الأسرة والمسجد والمدرسة والإعلام والأمن، ولا يجوز أن يستقيل الجميع من أدوارهم؛ ليرموا الكرة إلى رجال التعليم وحدهم، ثم يطلقون ألسنتهم السليطة بحقهم بعد ذلك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.