الحركة الإسلامية تجمّع بشري يهدف إلى تطبيق الفكرة الإسلامية بكل أبعادها في واقع الناس وحياتهم، من خلال الدولة الإسلامية التي تتخذ من الإسلام ديناً وشريعةً ودستوراً ونظاماً اجتماعياً وأخلاقياً.
والحركة الإسلامية في ذلك تسعى لتطبيق نظام معصوم بفهم بشري غير معصوم وبتطبيق بشري كذلك.
فالعصمة للفكرة الإسلامية ثابتة لمصدرَيها القرآن والسّنّة، وليست ثابتة بأي حال من الأحوال لفهم الحركة الإسلامية ولا لتطبيقها لها.
ومن هنا، فالنقد وارد ومقبول، بل وواجب ومفروض لمنظومة الأفكار الكلية والجزئية للحركة الإسلامية؛ المقتبسة من المصدرين الأصليين (القرآن والسّنَة)، والتي اقتبست بفهم وتأويل قادة الحركة الإسلامية ومفكّريها.
وكذلك النقد وارد ومقبول، بل وواجب ومفروض لممارسات الحركة ومواقفها التي تتخذها وتتبناها بناء على منظومة أفكارها الكلية والجزئية في ضوء المرجعية الأصلية.
ونحن هنا، في حديثنا عن مسألة القيادة في الحركة الإسلامية، نتحدث أولاً عن فكرة اختيار القيادة وكيفيتها في التنظير الفكري أولاً، ثم عن الممارسة والتطبيق ثانياً.
فأما عن الفكرة، فالواضح قطعاً أن الحركة الإسلامية قد ذهبت إلى وجوب العمل الجماعي من أجل خدمة الفكرة الإسلامية (بصرف النظر عن الحديث عن نوع الوجوب هنا؛ هل هو الوجوب الشرعي أم الوجوب العقلي المنطقي)، ويستدعي هذا الوجوب للعمل الجماعي وجوباً آخر، وهو وجوب تنصيب قيادة لهذه الجماعة وهذا التنظيم، وإلا لما كانت جماعةً ولا تنظيماً.
ثم يأتي الوجوب الثالث، وهو وجوب السمع والطاعة لهذه القيادة، وإلا لكانت الفوضى والتشرذم، وكانت الفردية المتدثرة بثياب الجماعية.
على أن هذه الواجبات الثلاثة تستدعي واجباً أصلياً حاكماً، وهو واجب الشورى في اختيار القيادة ابتداء، ثم في أخذها للقرارات والتوجهات ثانية.
فلا جماعية بغير قيادة، ولا قيادة بغير سمع وطاعة، ولا نجاح لهذه ولا لتلك إلا بشورى واجبة، لازمة وملزمة.
والحديث عن الشورى ولزومها، والاختلاف حولها من حيث كونها لازمة ملزمة أو لازمة غير ملزمة، حديث ليس هذا مجاله، ويكفينا هنا أن نشير إلى اختيار الحركة الإسلامية في المسألة، والذي اعتمدته في أدبياتها ومراجعها، وهو كون الشورى لازمة ملزمة، ويعني ذلك لزوم إجرائها، ثم لزوم إعمالها وإقرارها، وأن لا تكون مجرد حديث تشاوري حول رأي أو قرار للفت انتباه القيادة إلى أبعاده، ثم يكون للقيادة بعدها أن تلتزم بناتج الشورى أو لا تلتزم.
ومن ذلك الذي ذكرناه، يتبين لنا أن المنظومة الفكرية للحركة الإسلامية حول فكرة القيادة وأبعادها هي منظومة تكاد تصل غاية الكمال، أما عن التطبيق والممارسة، فهنا نحتاج لحديث طويل موجع.
فأما عن وجوب تنصيب القيادة بالشورى، فهذا ما نجد خلافه في كثير من الممارسات.
فكثيراً ما تختار القيادات العليا قيادات لمسؤوليات أدنى، ويكون اختيارها حينئذ من غير شورى، لمجرد رؤية فردية للصلاح والمناسبة، وهنا يكون الحديث الكثير عن تقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة، وهو حديث له وجاهته، وله أرضية كبيرة من الممارسات داخل الحركة الإسلامية، بل وداخل أي تجمع بشري حركي أو حزبي.
فدائماً ما تميل القيادات العليا إلى قيادات معاونة قريبة ووثيقة، متطابقة أو متشابهة في الرؤى والمواقف، وتنفر من تلك القيادات الأخرى المنافسة أو المخالفة، وتسعى إلى إبعادها، ويصل الأمر مع ذلك في بعض الأحيان إلى تعطيل آلية الشورى والالتواء عليها، أو التأثير فيها وتوجيهها، وهذا ما يكون له التأثير الكارثي على عمل الحركة ومستقبلها.
ومن أسوأ ما ابتليت به الحركة الإسلامية نفر من القيادة ينصّبون أنفسهم أوصياء، فيقربون هذا من الأفراد ويبعدون ذاك من غير شورى، ويقررون هذا من القرارات ويلغون ذاك من غير شورى، تحت ادعاء المصلحة، والحفاظ على الجماعة والتنظيم والأصول والثوابت.
حتى إن كانت الدوافع نبيلة في بعض الأحيان، وحتى مع الإخلاص والتجرد؛ لا يجوز لأي فرد أو مجموعة أفراد أن يحتكر أو يحتكروا الجماعة وقرارها وتوجيهها، بعيداً عن الشورى وتفعيلها وإعمالها.
ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يعمد البعض في قيادة الحركة إلى حبك الخطط والمؤامرات من أجل إبعاد البعض الآخر، زعماً أن في إبعاده مصلحة الجماعة والفكرة.
ليتحدث الجميع فيما يرونه، وليعرض الكل بضاعته، حتى وإن كان من هذه البضاعة بعض النقد والتحفظات على الآخر، وليُعرض ذلك كله على مجالس الشورى المنتخبة؛ لتأخذ القرار بعد ذلك، وتذهب بالأمر إلى أهله، وتختار لقيادتها من تشاء، بعد إيضاح الصورة بكل أبعادها، في إطار عام من الشفافية المطلقة.
وإن من أكثر ما يفسد الحركات وجود الجيوب والتجمعات الخاصة داخل الجسد الواحد، وكل جيب وتجمّع يسعى لامتلاك الأمر برمته، ويسعى لذلك من أجل تمكين رجاله وخاصته في كل مكان وكل مؤسسة داخل المؤسسة الأم.
إن ذلك من أكبر أسباب البلاء داخل الحركة الإسلامية، ومن أكبر أسباب تشرذمها وانقساماتها التي لا تتوقف ولا تنتهي، بل ربما يكون هو السبب الوحيد لهذه الانقسامات والتشرذمات.
فلن يجد الباحث المدقّق بين فروع الحركة الإسلامية المنشقة عن الحركة الأم في البلد الواحد فروقا تذكر، اللهم إلا الاختلاف حول القيادة والتنازع عليها، وحبك المؤامرات من البعض للاستيلاء والإبعاد والتقريب، استيلاء الفريق وإبعاد المنافس وتقريب المؤيد والمناصر.
لقد أمرنا الله بالشورى في الاختيار كفكرة عامة وإطار عام، ولم يحدد لنا كيفية لها، وأمرنا أن نراعي الكفاءة والمقدرة والمناسبة في هذا الاختيار، وترك دواخل نفوسنا له سبحانه، فمن قدّم مصلحة الحركة ومن ورائها مصلحة الفكرة والدين على أي مصلحة أخرى فقد أرضى الله وقدّم لنفسه، ومن قدّم مصلحة نفسه أو فريقه واختار مؤيداً أو مناصراً بصرف النظر عن كفاءته ومقدرته، فقد أغواه الشيطان، وما أرضى ربه، وما قدّم لنفسه.
وإنما تشيخ الحركات والأحزاب ثم تموت عندما يتولاها غير الأكفاء، ثم يورثونها لخاصتهم وذويهم، فتنتقل الحركة من غير ذي كفاءة إلى غير ذي كفاءة، فتشيخ وتمرض مع الزمن، ثم تموت وتفنى، ويستبدلها الله.
أما إذا أُعملت الشورى في الاختيار، وكان الاختيار للأصلح والأقدر، فإن الحركة تتعافى وتقوى يوماً بعد يوم.
ولو يوماً أتى لقياداتها غير ذي كفاءة، فإن الشورى تراجع نفسها وتختار غيره، فتعزل وتولّي، على أرضية الكفاءة والمناسبة، والمراجعة والمحاسبة.
لكن العزل والتولية-وإن كان حقاً أصيلاً ودائماً للشورى ومؤسساتها بعد المحاسبة والمساءلة- يستلزمان اختيار الوقت والظرف المناسب.
وفي بعض الأوقات والظروف يكون الإبقاء على القيادة المقصّرة والمخطئة خيراً من عزلها وتنصيب غيرها، حتى لا تضطرب الحركة ويضطرب أمرها، في ظل تلك الظروف الخاصة والطارئة. والأمور تقدّر بقدرها، والحكمة ضالة المؤمن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.