لا شكَّ أن تجربة الإسلاميين المشاركين في السلطة (العدالة والتنمية) تُظهر مرونة كبيرة على مستوى التفاعل مع معطيات الواقع، والخروج بنظرية الممارسة السياسية من المراجع القائمة على التوصيف الجاهلي [1] للمجتمع والنظام السياسي والمقتضيات التي يلزمها هذا التوصيف على مستوى آليات التغيير، وقبلها آفاق التغيير الذي يجد نفسه في أطروحات إقامة الدولة الإسلامية، وفق تصورات نصية للقرآن والسنة، وطموح غير راشد للخروج من واقع الصدمة والتخلّف الذي يعيشه الوطن والأمة.
وهي عقليات صاحبت قيادات حزب العدالة والتنمية -وأعني بالخصوص تياره المحسوب على الحركة الإسلامية- في مرحلة تاريخية، وكان قبل ذلك انفصال تيار واسع من أعضاء الشبيبة الإسلامية [2] البداية الفعلية لنقض ومراجعة العديد من المقولات التصورية.
غير أن الملاحظ في هذه المراجعات في مرحلة بدايتها أنها كانت تعمد إلى مقاربة نفعية في مسلك التطبيع مع المفاهيم والمؤسسات وآليات العمل، من خلال تقديم تبريرات للمواقف والخيارات على أساس المصالح التي يحققها للجماعة، أو المفاسد التي يدرأها عنها، وليس وفق تأصيل شرعي فكري يثبت القناعات، ويؤطر الانتقال، وهو ما سمّيناه مرحلة الإجابة النفعية.
غير أن اجتهادات قيادة هذه الحركة لم تبقَ جامدة، بل استمرت في التأصيل لخياراتها وتبنّيها بشكل مبدئي في مرحلة الإجابة المبدئية، وتجاوزها إلى مرحلة الوطنية التجاوزية، التي عبّر فيها الحزب من خلال مواقفه عن تجرّد كبير في التفاعل مع بعض القضايا.
شكلت كل مرحلة الخلفية الناظمة لتصور قيادات حزب العدالة والتنمية، سواء قبل وُلوجها إلى ساحة المشاركة السياسية أو بعدها، تجاه بعض محيطاتها السياسية والمدنية، واختصاراً لهذه المقالة وطمعاً في المزيد من البحث عن تمثلات هذا التحول، سنكتفي برصد الانتقال والمراجعة على مستوى التصور للنظام لملكي والعمل السري.
التصور للنظام السياسي الملكي:
"لقد كان التصوّر السائد زمن الشبيبة الإسلامية هو مروق النظام السياسي عن الإسلام، وابتعاده عن تشريعاته، والحسم في الضلالة التي يعيشها الحسن الثاني، "لقد كانت درجة تدين الملك تضايقنا في مرحلة الشبيبة الإسلامية، وإذا كانت مسألة إمارة المؤمنين غير قابلة للنقاش في تلك الفترة" [3].
هكذا يعلق أحد أبرز قيادات الحزب وأمينه العام الحالي، ما يعني النفي المطلق للشرعية الدينية على ممارسة الملك السياسية، ولعل مراجعة هذا الموقف وإقرار الشرعية الدينية للملك كان من مؤخرات ما تم الانخراط فيه، بعد أن كان المدخل إلى التغيير هو نزع الشرعية عن النظام الملكي، وفضح حقيقة التزامه بها، من خلال إيراد الأمثلة والنماذج لذلك.
ومجلة المجاهد كما في المناشير التي كانت توزعها الشبيبة الإسلامية آنذاك نموذج واضح لهذا الفهم [4].
جهد مغادرة هذا الفهم كانت تمليه من جهة التطلعات للمشاركة السياسية التي تقتضي التسليم للملك بالشرعية الدينية وعدم منازعته فيها، وهو ما لم يكن النظام السياسي ليسمح بدونه، خصوصاً أنه تم رفض الملف القانوني لجمعية الجماعة الإسلامية لقيام قانونها الأساسي حسب رد والي جهة الرباط سلا على أساس ديني، ما دفع الجماعة إلى تغيير اسمها سنة 1990.
ومن جهة ثانية دفعت قراءة إجابية للشرعية الدينية للنظام السياسي والتي اعتمدت ثلاثة مرتكزات، طرحها الأستاذ عبد الإله بنكيران، يتعلق الأول منها بكسب تنصيص الدستور على إسلامية الدولة، وهو ما لم تستطِع العديد من الحركات الإسلامية تحقيقه في أوطانها، رغم كل ما بذلته من أجل ذلك من تضحيات نفيسة، ثم المرتكز الثاني الذي يشبه الدولة بالإنسان المسلم المرتكب للمعاصي والذنوب، الذي لا يجوز بحال إنكار الإسلام عليه أو تكفيره، فكذلك الحال بالنسبة للدولة.
والمرتكز الثالث يتعلق بمسألة نزع الشرعية الدينية عن الدولة، بما يقدم هدية للقوى العلمانية والأجنبية الضائقة بالحركات الإسلامية وبإسلامية الدولة.
والحقيقة أن كل هذه الدوافع لم تنفذ إلى أن تصبح قناعة مبدئية لدى أعضاء الجماعة، بقدر ما كانت توفر إجابة مصلحية نفعية تؤمن المشاركة السياسية للجماعة، وتضمن فرملة الحركات العلمانية المواجهة للتشريعات المتصلة بالإسلام، من خلال مواجهة النظام الملكي القائم على شرعية الإسلام؛ لذا وضعناها في خانة الإجابة النفعية، وهو ما لمسته السلطة السياسية؛ حيث تم رفض ملف حزب التجديد الوطني، لما كان جواب الحسن الثاني على لسان مستشاره بنسودة "أن لا تدفعوني للقيام تجاهكم بما لا أريد".
الانتقال الثاني يفضي إلى التبني المبدئي والاعتراف الواعي بالمؤسسة الملكية وإمارة المؤمنين، وهي كذلك من شروط الدكتور الخطيب -رحمه الله- على أبناء الحركة الإسلامية للالتحاق بحزبه (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية)؛ إذ تنص أطروحة المؤتمر السادس للعدالة والتنمية على "تأكيد الحزب على أهمية مؤسسة إمارة المؤمنين من حيث أنها المشرف على تدبير الحقل الديني، ومن حيث أهمية هذه المؤسسة ودورها التاريخي والواقعي في المحافظة على الدين وتماسك النسيج المجتمعي، وتحقيق تحكيم بين القوى المجتمعية والسياسية"، هذا التوجه تم التأكد من نواياه الحقيقية لحظة الحراك المجتمعي فيما عرف بحركة 20 فبراير سنة 2011،
وهو ما نجعله في خانة انتقال ثالث نحو الوطنية التجاوزية في كون الحزب امتنع عن الخروج والمشاركة في الحراك الانتفاضي "إن الأمانة العامة إذ تؤكد أن الحق في التظاهر من أجل التعبير عن المطالب المشروعة والواضحة أمر من مقتضيات الممارسة الديمقراطية تؤكد أن حزب العدالة والتنمية غير معنيّ بالمشاركة في التظاهر يوم 20 فبراير/شباط 2011" [5]، مستحضراً كل احتمالات الفوضى وسقف المطالب غير الواضحة لبعض الأطراف المشاركة في التظاهر، دون أن يجعلها الحزب محطة لابتزاز المؤسسة الملكية أو كشف لنيّة مبيتة قائمة على الصراع معها، وهو ما تحمل فيه الحزب ضريبة انتقادات واسعة لقاء موقفه هذا، غير أن الأمر بالنسبة للحزب موقف يتجاوز الحزب إلى الوطن واستقراره، وهو ما سمّيناه الوطنية التجاوزية، وطنية من حيث تقديم مصلحة الوطن دون حساب الضرائب الممكن أن يتحملها الحزب، وتجاوزية بما هي تتجاوز حساب العائد الحزبي إلى المال على الوطن، نفس الخط سيستمر عليه الحزب بعد صعوده إلى تدبير السلطة؛ حيث أجاب أمينه العام الذي يصفونه بأنه ملكي أكثر من الملك بأنه لا مشكلة له في ذلك إذا ما قَبِل بها الملك نفسه.
أما الجانب الثاني من المراجعة فنخصه بالعمل السري الذي شكّل ركيزة عمل أساسية لدى تنظيم الشبيبة الإسلامية وبعده الجماعة الإسلامية في حماية الدعوة والتمكين من التوسع والاستقطاب، غير أن نتائج هذا الخيار كانت عكسية تماماً، فما فتئت الدولة تلاحق هذا التنظيم وتجعله تحت أضوائها ودفعت الاعتقالات الأولى عام 1981 والثانية 1982 [6] إلى كشف التنظيم، أسراره ومسؤوليه لدى الجهات الأمنية؛ ليبدأ التساؤل حول علّة السرية بعد أن أصبح التنظيم معروفاً، وتم الاتجاه نحو فكرة العمل السري بأدوات النقد تحت وطأة الاعتقالات والمتابعات، حتى تنتقل من دائرة العمل السري الذي يكون منتجاً باستمرار لعنف الأجهزة الأمنية القمعية، كما أنها جندت هذا الاختيار من جهة ثانية لتحقيق امتداد مجتمعي يتيح لها الاقتراب من تنفيذ أهدافها [7].
يجمل ذلك الأستاذ عبد الإله بنكيران في مقالة له حول الجماعات الإسلامية والفقه الحركي، منشورة بجريدة الإصلاح، بتاريخ 18 مارس/آذار 1988 في أربع نقاط:
1- أضعفت السرية عمل الجماعة وعزلتها عن المجتمع وبددت طاقة الأعضاء.
2- تعريض التنظيم لخطر المتابعة الأمنية.
3- تنامي الانحرافات التصورية والتنظيمية داخل التنظيم.
4- فسح المجال للخصوم بنعتنا بشتى الاتهامات.
وكل هذه الدوافع مرة أخرى لا تشكل قناعة مبدئية بالعمل العلني المدني، أو رغبة من قيادة الجماعة بالاشتغال من خلال الأطر القانونية المتاحة.
ويعني ذلك أنه لولا النقاط الأربع لظلت الجماعة في السرية، بيد أن التأصيل لم يكن في حتمية خيار العمل العلني القانوني وضرورته كمعطى من معطيات تثبيت دولة المؤسسات، وترسيخ مشاركة جمعيات المجتمع المدني في التأطير التربوي والثقافي والسياسي.
غير أن انفتاح قيادات الحزب وانخراطهم في سلسلة مراجعات إلى جانب التطبيع التدريجي مع مساطر العمل المؤسساتي ووضوح أفكار وأهداف هذا المكون، قد ساهم في ترسيخ قناعة العمل القانوني المدني، والانتقال من الاشتغال في الظل إلى رحابة العمل المؤسساتي، وفق قناعة لا تخفي إلا ما يقتضيه مبدأ حفظ أمانات المجالس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] كتابات سيد قطب "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق".
[2] تنظيم إسلامي كان يرأسه عبد الكريم مطيع تأسس سنة 1969.
[3] عبد الإله بنكيران في حوار مع جريدة المساء عدد 651، 2008.
[4] مراجعات الإسلاميين.. دراسة في تحولات النسق السياسي والمعرفي.
[5] بيان الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية بتاريخ 15 فبراير/شباط 2011.
[6] ص 129، بلال التليدي، مراجعات الإسلاميين دراسة في تحولات النسق السياسي والمعرفي.
[7] عبد الإله سطي، الملكية والإسلاميون بالمغرب، ص 130.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.