إنَّ السقوط السريع لرئيس زيمبابوي، الذي تميَّز بمكرٍ وضراوةٍ أسطوريَّين ساعداه في التغلُّب على عددٍ لا يُحصَى من الخصوم على مدار أربعين عاماً، لم يفاجئ أحداً في الأغلب أكثر ممَّا فاجأ روبرت موغابي نفسه.
ولسنوات، كان موغابي واثقاً من أمانه – وقوَّته – في الحكم لحد أنَّه كان يرحل عن زيمبابوي في عطلاتٍ تستمر شهراً بعد عيد الميلاد (الكريسماس)، ولم يواجه قط أيَّ خطرٍ خلال فترات الغياب الطويل المُتوقَّعة تِلك، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
وحتى في سن الثالثة والتسعين، بدا مِن قبضته المُحكَمَة على الحزب الحاكم في البلاد وسيطرته على الجيش أنَّ سلطته حصينةٌ مِن أيَّة شكوك.
لكن على مدار أيامٍ فقط جُرِّد موغابي، الذي حكم بلاده منذ حصولها على الاستقلال عام 1980، من أغلب سلطاته، حتى وإن ظلَّ متشبثاً بالمنصب الرئاسي.
وفي خطابٍ انتظره المواطنون ليلة الأحد، 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ظهر موغابي، وبدلاً من أن يُعلِن استقالته كما توقَّعت مُعظم الأمَّة، صَعَق زيمبابوي برفضه التنحِّي. وبينما اعترف أنَّ البلاد "تمُرُّ بوقتٍ عصيب"، لم يُبدِ أيَّة علامة على إدراكه، أو قبوله، مدى تبدل واقع الأمور من تحت قدميه في وقتٍ قليل كهذا.
وفي وقتٍ سابق من يوم الأحد ذاته، أقال الحزب الحاكم "زانو – الجبهة الوطنية"، والذي لطالما كان مسيطراً عليه سيطرةً كاملة، موغابي من منصب زعيم الحزب، فيما اندلع تهليلٌ ورقصٌ بعد إجراء التصويت. ومُنِحَ موغابي مُهلةً حتى ظُهر اليوم الإثنين، 20 نوفمبر/تشرين الثاني، للاستقالة أو مواجهة الإقالة على يدِّ البرلمان.
وقبل أيامٍ قليلة من ذلك، وتحديداً يوم الأربعاء، 15 نوفمبر/تشرين الثاني، وضعه الجنود تحت الإقامة الجبرية، ولَم تُرَ زوجته البالغة من العمر 52 عاماً، غريس موغابي، والتي ساهم طموحها بخلافته على العرش في سقوطه، في العلن منذ آنذاك.
لكن في خطابه، صرَّح موغابي حتى بأنَّه سيرأس مؤتمر حزبه الحاكم والمُقرَّر عقده بعد بضعة أسابيع. وبعد 37 سنة من التحكُّم في أمَّة بأكملها، فإن موغابي يرفُض الاستسلام بسهولة.
ما هي الأحداث التي أدّت إلى الانقلاب على موغابي ؟
في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بدأت سلسلةٌ من الأحداث التي أدَّت لسقوط موغابي، عندما أقال نائب الرئيس، إميرسون منانغاغوا، وهو حليفٌ مقرَّب من الجيش، ثُم حاول القبض على القائد الأعلى للجيش بعد بضعة أيامٍ أخرى. كان موغابي قد وقف أخيراً ضد الجيش وحلفائه السياسيين على إثر خلافٍ قديم ومستمر داخل صفوف الحزب الحاكم.
وقال دوغلاس ماهيا، وهو أحد قادة اتحاد المحاربين القدامى، وهي مجموعةٌ خاضت معارك الجيش السياسية في البلاد بالوكالة فيما سمح ذلك للجنرالات الرسميين بالبقاء على صفِ الحياد علناً: "تجاوز موغابي خطاً أحمر، ولم يكن لنا أن نسمح لذلك بالاستمرار".
وبعد بضعة ساعاتٍ من إقالته، فرَّ منانغاغوا، خشية أن يُعتقَل، مع أحد أبنائه إلى موزمبيق المجاورة، حيث يحظى هُناك بعلاقاتٍ عسكرية قوية. ويقول حلفاؤه إنَّه وصل نهايةً إلى جنوب إفريقيا.
وقال جولي مويو، وهو حليفٌ مقرَّب من منانغاغوا، إنَّ نائب الرئيس كان قد أعدَّ نفسه لاحتمال أن تجري إقالته. وقال مويو: "تقبَّل أنَّ الأمور قد تسير على نحوٍ شديد السوء، وبذلك أقلم نفسه على هذا الاحتمال".
دور جنوب إفريقيا
وبعد عدة ساعاتٍ من هروب نائب الرئيس إلى موزمبيق، كان كريستوفر موتسفانغوا، وهو رئيس اتحاد المحاربين القدامى وأحد أقرب حلفاء منانغاغوا، قد استقلَّ طائرة مُتجِّهة إلى جنوب إفريقيا.
وعلى مدار الأيام التالية، قال موتسفانغوا إنَّه التقى بضبَّاط استخباراتٍ جنوب إفريقيين، مُحذِّراً إيَّاهم من حدوث تدخُّلٍ عسكري محتمل في زيمبابوي. وقال إنَّه حاول إقناع المسؤولين من جنوب إفريقيا بألَّا يصفوا أيََّ تدخُّل باعتباره "انقلاباً"، وهوَ اعتراف مُهم الحصول عليه من جنوب إفريقيا، التي تُعَد قوة إقليمية في المنطقة.
ومع أنَّ روايته تلك لم يكن من الممكن التأكد من صحتها من جانب المسؤولين الجنوب إفريقيين يوم الأحد، 19 نوفمبر/تشرين الثاني، لم تذكر حكومة جنوب إفريقيا كلمة "انقلاب" في بيانها الرسمي بعد حدوث التدخُّل العسكري يوم الأربعاء، 15 نوفمبر/تشرين الثاني.
وقال موتسفانغوا، مشيراً للتدخل العسكري: "كنت أعلم أنَّ الجيش يتحرَّك في هذا الطريق، فقد كان حتمياً أن يحدث تدخلٌ عسكريٌ في مرحلةٍ أم أخرى".
وبينما تولَّى موتسفانغوا جبهة المسؤولين الجنوب إفريقيين، كان القائد الأعلى للجيش في زيمبابوي، الجنرال كونستانتينو تشيوينغا، في زيارةٍ رسمية إلى الصين. وبلغه وهو في الخارج أنَّ موغابي قد أمر باعتقاله عند عودته إلى البلاد، وفقاً لعدة أشخاصٍ مقرَّبين من الجيش. وكانت الشرطة ستُلقِي القبض على الجنرال في اللحظة التي تهبط فيها طائرته، يوم الأحد 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
لكن فيما استعد الجنرال تشيوينغا للهبوط، استطاع جنودٌ موالون له اختراق المطار. وفاجأت قوَّاته – المتنكرة في زيِّ عمَّال حقائب – الشرطة وسرعان ما غلبتها. وقبل الرحيل، قيل إنَّ الجنرال قال لضبَّاط الشرطة إنَّه "سيتعامل" مع قائدهم، وهو موالٍ لموغابي.
وفي خلال بضعة أيامٍ فقط من تلك الحادثة، كانت الدبابات تسير في طريقها إلى العاصمة وأطاح الجنود بموغابي.
إقالة نائب الرئيس
كان قرار الرئيس بإقالة نائبه واعتقال الجنرال نتيجة معركة طويلة – وشرسة وشخصية بشكلٍ متزايد – داخل صفوف الحزب الحاكم، وهو الحزب المتحكم في زيمبابوي منذ حصولها على الاستقلال عام 1980. كان منانغاغوا، ولقبه "التمساح"، يتزعَّم الفصيل المدعو "لاكوست"، مدعوماً من قبل الجيش والمحاربين القدامي.
وفي المقابل، تزعَّمت زوجة الرئيس الفصيل المنافس والمدعوم من قبل الشرطة، الذي تأكَّد ولاؤها لموجابي عندما أسند قيادتها إلى ابن أخيه، من بين خطواتٍ أخرى اتخذها. تضمَّن هذا الفصيل في أغلبه ساسةً أصغر لا خبرة لهم بحرب التحرير ولقَّبهم جوناثان مويو، وهوَ سياسيّ جريء وشديد الطموح يُعتبَر العقل المدبِّر وراء الفصيل السياسي، باسم الجيل 40 أو جي-40.
وفيما تناحر لاكوست وجي-40 سوياً حتى يخلفوا موغابي في النهاية، لم يعطِ الرئيس أياً منهما إعلاناً بالتأييد. وبالنسبة لكلا الفصيلَين، كان العامل الأكبر هو سن موغابي وضعفه البادي أكثر فأكثر. كان الأمر مسألة وقتٍ قبل أن "تأخذ الطبيعة مجراها" و"يرحل الرجل المسن" كما قالت الطبقة السياسية.
كان الوقت في صف لاكوست. فعندما تأخذ الطبيعة مجراها، كانت السلطة ستذهب بشكلٍ طبيعي إلى منانغاغوا وداعميه العسكريين، أو هكذا اعتقدوا.
ظلَّ منانغاغوا صامتاً إلى حدٍ كبير، ممتنعاً عن الرد على مهاجميه، وعامل موغابي باحترامٍ بالغ. أيَّما استقل موغابي طائرة عائداً من رحلةٍ للخارج، أظهره إعلام الدولة دائماً وهوَ يحيي الرئيس على المدرج، مستقبلاً إياة بابتسامةٍ ولغةِ جسدٍ أقرب إلى التذلُّل.
وبالنسبة لأعضاء جي-40 الأصغر سناً، فقد كان الوقت ضدهم. إذ إنَّ أصولهم الكُبرى المتمثلة في شخص غريس موغابي ستفقد كلَّ قيمتها في حال موت زوجها. وبهذا تعجَّلوا تحقيق انتقالٍ للسلطة فيما كان موغابي ما يزال حياً.
ومنذ بضعة أشهرٍ فقط، أسرَّ مويو إلى صديقٍ أنَّه "ليس واثقاً" بشأن موقف فصيل جي-40 مع الرئيس. ورغم مجهوداته لكسب ود الرئيس من خلال غريس موغابي، قال الصديق المذكور، والذي تحدَّث على شرط الإبقاء على هويته مجهولة لأنَّ المحادثة كانت خاصة، إنَّ مويو كان على غير يقينٍ من "موقف الرجل المسن تجاه مع منانغاغوا وتشيوينغا".
وقال: "شعر أنَّ عليه إقصاء منانغاغوا قريباً جداً لأنَّ الرجل المسن كان ما يزال متردداً بشأنه".
السيدة الأولى
يعتقد معظم السياسيين والخبراء أنَّ سقوط موغابي جاء بسبب قرار زوجته بأن تجعل نفسها قوةً سياسية في منتصف عام 2014.
ويقول تنداي بيتي، المحامي والسياسي المعارض ووزير المالية السابق في الحكومة الائتلافية المُشكَّلة قبل بضع سنوات: "تسبَّب دخول السيدة الأولى في السياسة في شَقِّ صف النخبة في زيمبابوي".
وأضاف: "جاء هذا الانقلاب نتيجة خلافات بين أُناس يأكلون على نفس الطاولة، في حين أنَّ معظم الانقلابات في إفريقيا تأتي من قِبَل أُناس يأكلون تحت الطاولة ويتلقون الفُتات".
وليس واضحاً لماذا قرَّرَت زوجة الرئيس موغابي، ذات الـ 52 عاماً، الخوض في السياسة فجأة. فهي متزوجة من موغابي منذ عقودٍ مضت، وقد عُرِفَت باسم "غوتشي غريس"، في إشارةٍ إلى أنها شخصٌ مُهتمٌ بالتسوُّق وبالحياةِ المُترَفة. وعندما بدأت علاقتها بموغابي كانت في ذلك الوقت تعمل كاتبةٍ على الحاسوب من بين سكرتيرات الرئاسة، وفي هذه الأثناء كانت زوجة موغابي الأولى سالي تحتضر من مرض السرطان. وخلافاً للزوجة الأولى التي أحبها الناس كثيراً، لم تلق زوجة موغابي الثانية إعجاب الكثيرين في زيمبابوي.
ويُرجِع بعض السياسيين والخبراء نوايا زوجة موغابي السياسية إلى مويو، وهو مؤسس جماعة "جي-40".
كان لمويو ماضٍ مُتقلِّبٌ بين تحالفات حزب زانو – الجبهة الشعبية المُتبدِّلة باستمرار. وفي عام 2004، كان قد طُرِد من الحزب بعد تخطيطه لتعزيز سلطة منانغاغوا وحده بشكلٍ حاسم، وهو الذي تمكَّنَ من الهرب سياسياً دون أن يلحق به أذى. فتعهَّد مويو، الذي شعر بالخيانة من منانغاغوا، بعدم العمل معه مرةً أُخرى، وهو ما تسبَّبَ في عداءٍ دام عقداً من الزمن مما أدى إلى الانقلاب العسكري الأخير.
وقد أُعيد تأهيل مويو، الذي قد أشاد بذكاء موغابي، وانضم إلى الحزب مرةً أُخرى وعُهدت إليه مناصب وزارية في الحكومة.
ولكن في يونيو/حزيران 2014، جاء مويو مرةً أُخرى من بين المطرودين. ففي جنازة لأحد الرموز بالنصب التذكاري الوطني بزيمبابوي، انتقد موغابي مويو لتسبُّبه في انشقاق الحزب. ووصفه الرئيس بأنه "سوسة" – وهي حشرة تأكل الذرة من الداخل، فالذرة من المواد الغذائية الأساسية في زيمبابوي.
وقال الرئيس: "حتى فى زانو – الجبهة الشعبية لدينا سوس، ولكن هل يجب علينا الاحتفاظ به؟ لا".
ووفقاً لسياسيين وأصدقاء ومُحلِّلين، فقد حثَّ مويو السيدة موغابي على دخول السياسة من أجل تأمين بقائه.
وقال ديوا مافينغا، وهو باحثُ متخصصُ في الشأن الزيمبابوي في منظمة هيومان رايتس ووتش، في معرض الإشارة إلى مويو: "لقد استغل مخاوفها، وقال لها: "أنتِ زوجة شابة لزوجٍ عجوز لم يبق أمامه من العمر الكثير، وعليكِ أن تؤمِّني مستقبلك. فأنتِ بحاجة إلى أشخاصٍ مخلصين لك، والأفضل لك حماية مصالحك قبل حماية نفسك".
وسرعان ما خطَّطَت السيدة موغابي وحلفاؤها لإزالة المنافسين، بمن فيهم جويس موجورو، نائبة الرئيس، وكذلك كريس موتسفانغوا، الذي شغل منصب وزير موغابي لشؤون المحاربين القدامى.
وبالرغم من ازدياد تواتر الرحلات الطبية للرئيس إلى سنغافورة، فإنه لم يتخذ قراراً نهائياً بشأن من سيخلفه.
بدأ الوقت ينفذ. وهكذا بعد وقت قصير من تعبير مويو عن إحباطه المتزايد من صديقه، يبدو أنَّه قرَّرَ المجازفة. ففي يوليو/تموز 2017، وفي أثناء اجتماع قادة الأحزاب، شنَّ مويو هجوماً مباشراً على منانغاغوا، حيث عرض شريط فيديو مدته 72 دقيقة لإظهار ازدواجية معايير منافسه ورغبته في الإطاحة بالرئيس.
وفي الوقت ذاته، كثَّفَت السيدة موغابي هجماتها الإقصائية واصفةً منانغاغوا بأنه "جبان" و"مُخطِّط للانقلاب".
في تجمع في مدينة بولاوايو في مطلع هذا الشهر، بدأ بعض الشباب، يُفترض أنهم من فصيل لاكوست المُنافس، بمقاطعة حديث السيدة موغابي واصفين إيّاها بـ"اللصة".
فقالت لهم: "إذا كنتم قد تلقيتم الأموال لمقاطعة حديثي، فامضوا قُدماً. فأنا السيدة الأولى، وسأقف لإظهار الحقيقة. استدعوا الجنود ودعوهم يطلقون النار علي".
ومن الواضح أنَّ ما حدث قد أثار غضب موغابي الذي اتهم السيد منانغاغوا بعدها على الفور بأنّه من وقف وراء هذا.
وقال الرئيس: "هل اخطأت فى تعيين منانغاغوا نائباً؟". وأضاف: "إن أخطأت، فسأصحِّح هذا الخطأ غداً".
وبعد يومين، عَزَلَ موغابي منانغاغوا، ليفتح الطريق أمام غريس موغابي لتصبح نائبة الرئيس، وحين تأخذ الطبيعة مسارها ويتوفى موغابي، ستصبح هي من سيخلفه.
نعم، فازت أخيراً السيدة موغابي وحلفاؤها، ولكنه نصرٌ كلَّفها الكثير وهو ما شهدته بعدها.
بينما أتمّ فصيل لاكوست إزاحة موغابي، أزاح مسؤولو الحزب أمس الأحد 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 غريس موغابي من رئاسة الرابطة النسائية التابعة لحزب زانو – الجبهة الوطنية وحظروها من دخول الحزب مدى الحياة. كما مُنِعَ مويو أيضاً من دخول الحزب إلى الأبد، فيما عُزِل النائب الثاني للرئيس موغابي، فيليكيزيلا مفوكو، الذي كان قد خدم لمدة ثلاث سنوات مع الرئيس.
وكانت النهاية أفضل بكثير لمنانغاغوا: فقد اختاره الحزب يوم الأحد، ليصبح زعيمه الجديد.