حينما تفقد الأم ابنَها فجأةً تصبح حياتها ملطخةً تماماً كدمائه التي ملأت ثيابه والأرض بالدماء، الذاكرة التي تسير بها كل يوم ترتبط بكل شيء يعود إليه، نظراته، ملامح وجهه، لمسات يده، تحتضنها في روحها، تلك الغصة المأزومة جداً تعيش معها وترافقها كلما نظرت إلى أبنائها وأبناء الحي، تحاصرها في كل شاب من عمر فقيدها، فمن منهن كانت تعلم أنها ستعيش لترى فاجعة كهذه ويوماً كهذا.
أم محمد، أم فلسطينية في أواخر الستين من عمرها، وجهها شاحب به عبق السنين.
استشهد ابنها وهو في السادسة عشرة في فترة الانتفاضة؛ ليقف دائماً الحديث عنده كأن التحدث عنه عادة صباحية ولربما يومية، أو حتى حاجة مُلحّة.
بصوت يحمل حزن ثلاثين عاماً أخبرتني أن هناك شيئاً غريباً جداً في أن تتذكر ابنك الذي يبقى حتى تموت في السادسة عشرة من عمره، وتحاول جهدك أن تتعرف عليه وهو في الثلاثين أو وهو أب، كيف تغيرت ملامحه وكيف أصبح صوته، وزنه، طوله؟
استرسلت بالقول: هناك لوحة رسمها محمد وهو في الخامسة عشرة من عمره لا تزال في غرفته، وأنا أنظر إليها كل يوم، وأشعر أنه يكلمني من خلالها، لكن اللوحة هي الأخرى تتغير، أما هو فبقي في السادسة عشرة، لا أعلم إن كان يشعر بي، ولكني أفضّل أن أفكر بأنه يشعر بحزني، ولذلك لا يفارق ذاكرتي، فأنا وفيّة لتذكره أو حتى لا أحتاج للوفاء، فهو في عقلي وصوره المتقلبة في ذاكرتي ترتسم كلما نظرت إلى تلك اللوحة، كيف رسمها؟ كيف مسك القلم ولوّنها؟ وملامح وجهه الطفولية، حينما يسألني أحد عن أبنائي أذكره قبلهم فهو فلذة كبدي، وله نصيب في الحديث عنه تماماً كما أتحدث عن باقي أبنائي، له حصة في الطعام والملابس الجديدة، وله سرير في غرفة أخيه، كتبه المدرسية لا تزال على طاولته تنتظر أن يكمل الثانوية والجامعة.
في تلك اللحظة اقتربت منها وتعجبت كيف أنني شعرت بحاجة عميقة لمواساتها على فقدان ابنها قبل ثلاثين عاماً!
ثم قالت: إن هناك عالمين: عالماً قبل فقدانه، وعالماً بعده، وأنا أريد أن أعيش في العالم الأول؛ حيث كانت ابتسامتي حقيقية ورغبتي بالحياة حقيقية، وحيث كانت هناك فرحة بتحضير الطعام والخلافات اليومية مع الأطفال وزوجي، لكنني أعيش في العالم الثاني مع ذات تبتسم؛ لأنها لا تريد أن تحمّل الآخرين عمق حزنها.
تقابلت مع أم محمد أكثر من مرة بعد هذا الحوار، وفي كل مرة تدور الأحداث ونجد أنفسنا ونحن نتكلم عن ابنها والحياة الأولى والثانية.
قبل يومين وهي تتكلم تذكرت كلمة "ثكلى" التي تعني الأم التي فقدت ابنها، وسألت نفسي إن كانت هذه كلمة توجد في كافة اللغات أم أنها مفردة اكتشفها العرب لإدراكهم عمق الألم الذي يصيب الأم التي تفجع بطفلها؟
في كل مرة تكلّمت فيها مع أم محمد فكرت بعدد الأمهات اللاتي فقدن أطفالهن في فلسطين وغيرها من الدول، ولا سيما أن أعداد الشهداء في ازدياد ويزداد عدد الأمهات اللاتي يبكين أبناءهن حسرة وألماً.
الأم دائماً ما تضع لابنها مسيرة حياتية تكون أبعد ما تكون عن الموت، فهي تقول دائما إلى أن يأخذ القدر روحي فأريد لابني الأفضل، مَن منهن قد يضع احتمالاً لأن يرحل فلذات أكبادهن قبلهن.
والآن أفكر، كم مفجوعة لدينا وكم عائلة تفكر بحياة ما قبل وما بعد؟ وكم أمنية هناك للعودة إلى ما قبل؟ وكم ابتسامة يبتسمها الناس؛ لأنهم يريدون تذكّر حركات عضلات الابتسامة وليس لأنهم سعداء؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.