قبل أيام فقط، استرجعت ذكرى متابعة مجموعة من الأشرطة كنت قد خزّنتها في جهاز الحاسوب قبل سنوات، توقفت عند شريط للعالم والفقيه المغربي السوسي سعيد الكملي -حفظه الله- وهو يرد على منتقدي مشروع طه حسين من خلال كتابه الأول (في الأدب الجاهلي).
قال شيخنا الجليل باللفظ الواحد: "يذكر أنه تكلم القرآن، وأنه قال في القرآن أخطاء يجب أن تصحح"، ثم استرسل شيخنا العالم قائلاً: "أنا في الحقيقة ما وجدت هذا، نصاً عنه، يحكونه الحاكون عنه، ولكننا لم نجده عنه"، مستشهداً بنقد العقاد له، إضافة إلى ما كتبه مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- في (تحث راية القرآن) رداً على طه المغرَّب المغرِّب.
من ذلك الحين وأنا أتشوق لأن أكون مثل طه الأديب والكاتب العربي الشهم، أقرأ (الأيام)، سيرة الرجل، وأسعد بأن تتوافر مكتبتي على دراساته ورواياته، حتى أدركت مشروعه التغريبي، واستوعبت فكره المنشود، فعدت لأقرأ للرافعي رده، وللأستاذ عبد السلام ياسين، العالم المغربي الذي قل ما يجود الدهر بمثله، رحم الله الجميع ونفعنا بهم وبما كتبوه، وبتقواهم والطريق الذي سلكوه.
قال الرافعي رحمه الله: "وطه حسين إن لم يكن ذئباً، ولكن نرجو أن يرحمه الله ببراءته من تهمة كتهمة الذئب تعدو على النبوة وتمزق بأظفارها أديم الإسلام"، وقال كذلك: "وتالله ما رأيت رجلاً أعجب من هذا الأستاذ، ولكن كلامه إنما هو صورة فكره، وفكره مظهر أخلاقه، وحسبك من أخلاقه هذا العناد وهذه المكابرة وهذا الكذب وهذه السخرية كأنه ليس في الأمة إلا هو وحده يعقل ويفهم…".
جدير بالذكر أن الشيخ والفقيه الكملي، لم يدافع على أغلاط طه بقدر ما كان هدفه، التريّث قبل إصدار الأحكام، والذي نسعى للوصول إليه هو حقيقة هذا الفكر الطاهوي، الذي هو في أصله جزء من الحملة ضد الإسلام والقرآن؛ لنسجل عليه ذلك.
نقف عند ما أورده الأستاذ ياسين في (حوار الماضي والمستقبل) نقلاً على (مستقبل الثقافة في مصر)؛ لنرى كيف خطط طه المغربّ لهذا المستقبل، قال الأستاذ ياسين في محور عنونه بـ(الترف والإلحاد): "نقرأ هذا الاقتناع عند رائد مصري للتغريب في مطلع هذا القرن العشرين من تاريخ النصارى، وعند تلميذ مغرب في أواخر هذا القرن"، فنعته بالمغرّب حسب التصور الياسيني لم يكن عبثاً ولا من باب الصدفة، بل هي عصارة نقدية تصحيحية لأفكار طه الاستشراقية.
أورد عليه الأستاذ ياسين قوله: "نحن نكوّن أبناءنا في مدارسنا الأولية والثانوية والعالية تكويناً أوروبياً لا تشوبه شائبة"، ومن ذلك قوله أيضاً: "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحبّ منها وما يكره، ما يحمد منها وما يعاب"، ثم قوله: "وأن نشعر الأوروبي بأننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوّم الأشياء كما يقوّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها…"، وهو ما دفع الأستاذ ياسين إلى وصف طه أحياناً بالأعمى البصيرة وأحياناً أخرى بالصبي الأعمى.
إن رواد التغريب من طينة طه حسين حسب التصور الياسيني، استعمار جديد حلّ بالبلاد بعد خروج الاستعمار الأوروبي، قال الأستاذ ياسين: "قام أبناء البلد يرفسون دينهم، ويمارسون إدارة المطحنة نيابة عن الرواد الأجانب جنسية، الأساتذة المعلمين الأصفياء. أولئك الذين أعطت برامجهم أكلها: جيلاً وأجيالاً تفكر كما يفكر الأوروبيون، وترى الأشياء كما يرون، وتقوّم الأشياء كما يقوّمون وتحكم كما يحكمون…".
إن ما ذهب إليه طه وتلامذته الذين أظهروا جرأة أكثر نكاية من معلمهم في كثير من المسائل، قد أسهموا في هذه الأزمة التي تمر منها الأمة، ونحن ننشد مستقبلاً آخر وجب معرفة الصالحين المصلحين من الفاسدين المفسدين في مرحلة أولى، ثم السعي إلى تربية أجيال تستطيع بغيرتها الصادقة على الدين، التمييز بين الحق والباطل، وبين الشر والخير، وبين الفاسد والطالح، من خلال ما تقرأه وما تسمعه وتراه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.