إلى أين تتجه الحكومات الأوروبية؟

كان من الواضح جداً أنهما اختاراني أنا من بين عشرات المسافرين والمسافرات الأوروبيين بسبب ملامحي العربية، بل وكان يمكن للتحقيق أن يأخذ وقتاً أكثر إذا ما علما أنني طالبٌ في إحدى أعرق جامعات فرنسا وأوروبا، وبالكاد صدقا أنني طالبٌ فلسطيني من غزة يدرس في هذه الجامعة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/14 الساعة 02:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/14 الساعة 02:49 بتوقيت غرينتش

في منتصف ظهر يوم السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، كنتُ أشرب القهوة في أحد مقاهي مدينة موناكو، إحدى أجمل وأغنى المُدن على ساحل الريفييرا الفرنسي المليء بالسياح.

دفعتُ الحساب وذهبتُ إلى إحدى محطات القطارات في المدينة، كنتُ على وشك أن أصعد قطاراً مُتجهاً إلى المدينة الّتي توجد فيها جامعتي.

فُتحت أبواب القطار وكنتُ على وشك الصعود إلى أن تم إيقافي من قِبل رجلين بلباس مدني من بين عشرات المُسافرين، أخرجا شارة الشرطة من جيبهما وعرّفا نفسيهما، فتشا حقيبتي الجامعية، وطلبا منّي بطاقة الهوية، سألاني عن سبب مجيئي وعمن أنا، واستمر التحقيق خمس عشرة دقيقة تقريباً.

كان من الواضح جداً أنهما اختاراني أنا من بين عشرات المسافرين والمسافرات الأوروبيين بسبب ملامحي العربية، بل وكان يمكن للتحقيق أن يأخذ وقتاً أكثر إذا ما علما أنني طالبٌ في إحدى أعرق جامعات فرنسا وأوروبا، وبالكاد صدقا أنني طالبٌ فلسطيني من غزة يدرس في هذه الجامعة.

حين سألتهما لماذا اختاراني أنا من عشرات الأشخاص؟ ردّا بأنه "إجراء أمني" و"عادي"، وأنهما يفحصان ويفتشان الكل بالتساوي، لكن تلك لم تكن الحقيقة إطلاقاً.

إذ حينما انتهيا من التحقيق معي لم يُبادرا حتى بتفتيش أي شخص آخر على متن القطار أو خارجه، وبعدها اختفيا تماماً.

هذه حادثة صغيرة حصلت مع شخص واحد في جنوب فرنسا وهو أنا، لكنها تحصل مع عشرات الأشخاص يومياً في جميع أنحاء فرنسا وأوروبا.

حينما عُدت إلى جامعتي وناقشتُ الحادثة مع زملائي وزميلاتي، الأغلبية الساحقة من الطلاب والطالبات الفرنسيين والأميركان ومن باقي أنحاء العالم استنكروا تلك الحادثة استنكاراً شديداً ولم يتقبلوها.

وهُنا نطرح سؤالاً مفصلياً: إذا كانت الشعوب نفسها لا تريد هذه الممارسات من قِبلِ حكومتهم، فلماذا تستمر الحكومات في تنفيذها؟

إن هذه الحادثة تعكسُ موجة جديدة في معظم دول أوروبا وهي تنفيذ الحكومات الأوروبية لسياسات غير ديمقراطية تحت مُسميات رنانة خفيفة على قلوب المُستمعين وخادعة.

إذ حينما قال لي الشرطي بأنه "إجراء أمني عادي" أراد بذلك أن يُبرر هذا التفتيش بأنه مبنيّ على حق الدولة السيادية للحفاظ على أمن وسلامة الأغلبية.

وهذا ما تُفسره نظرية العقد الاجتماعي في العلوم السياسية، أي أن يتخلى الفرد عن بعض من حرياته من أجل حكومة تسعى للحفاظ على أمنه.

لكن مع وجود الهجمات التي حصلت في كل من باريس ونيس، ومع تدفق المُهاجرين من الخارج، استخدمت بعض الحكومات الأوروبية تلك الظواهر وخوف السكان من الهجمات كمبررات وبالغت في استخدام القوة وسيادتها باستهداف وتفتيش جهات عرقية مُحددة والتشكيك بها وتسمية تلك الأفعال تحت مظلات كبيرة كـ"إجراء أمني" أو "احتياط" لتبرر ممارساتها.

وأيضاً يجب التذكير بأن بعض الصحف والقنواتِ الإعلامية عززت امتصاص هذه المفاهيم من داخل الشعوب الأوروبية بالتركيز على ظاهرة الإرهاب والتطرف والهجرة و"الإسلام الراديكالي"، الأمر الذي ساهم أيضاً في بناء قاعدة دعم جماهيرية لصعود أحزاب يمينية مُتطرفة انتهازية استغلت هذه الظواهر وتغذت عليها لكسب الأصوات.

أي نعم، لكل دولة حق وسيادة وقوة لحماية نفسها وشعبها ومصالحها، لكن المُبالغة والاستهداف العرقي وسوء استخدام تلك السيادة تمس حقوقاً إنسانية كحق حرية التحرك وحق الخصوصية، وحق عدم التمييز.

ويمكن أيضاً ربط تلك الممارسات و"الإجراءات" بظاهرة التطرف الّتي توجد في جميع أنحاء القارة والعالم؛ إذ أثبتت التحقيقات أن سوء مُعاملة الشرطة والتمييز العرقي لهما آثار سلبية جداً على الآخر وقد يتسببان في جعل بعض الأشخاص متطرفين ومنفعلين.

وهُنا تكتمل دائرة مغلقة ونبوءة تحقق ذاتها، أي أن هذه الممارسات تؤثر بالسلب على بعض الأشخاص الذين يلجأون لارتكاب هجمات إرهابية كردة فعل، والّتي ليست بالضرورة مرتبطة بـ"أيديولوجية إسلامية مُتطرفة" وكنتيجة، تزيد الحكومات من هذه "الإجراءات الأمنية" كردة فعل على تلك الهجمات وتزيد بعض القنوات الإعلامية من نشر أخبار مُسيئة لسمعة وصورة الأقليات العربية والمسلمة، وبالتالي تؤثر على مدى اندماجهم في المُجتمع وبالتالي تؤدي لعزلهم أكثر، الأمر الذي يؤدي إلى ارتكاب بعض الأشخاص أعمال عنف وهجمات إرهابية أخرى، وتكتمل الدائرة وتعيد نفسها من البداية.

لا أشير هُنا إلى أنني أحاول أن أبررُ تصرفات بعض المتطرفين كهجوم أو تخريب أو إرهاب، بل أنبذ العُنف بكل أنواعه.

لكن أحاول أن أشير إلى الجانب الآخر من القصة وهو وجود ظروف مُعينة عززت بشكل كبير فرص حدوث تلك النتيجة كسوء مُعاملة الشرطة العنيفة والإعلام.. إلخ.

يجب التنويه بأن هذه الممارسات ليست بالجديدة، فعلى سبيل المثال، في ستينيات القرن الماضي، استخدمت الشرطة الأميركية العنف والتفريق العرقي تحت مُسمى "حقوق الدولة" ضد السود الذين قادوا حملات التحرك الاجتماعي، وقاموا بضربهم ومنعهم من التظاهر وسجنهم.

بالطبع، لم يكن السود قادرين على مواجهة أفراد الحكومة الأميركية المُدججين بالسلاح؛ لأن الدولة هي المحتكر الوحيد للسلاح والقوة، وشرعّة الحكومة الأميركية تلك الأفعال والسياسات تحت ذلك المُسمى المُضلل.

سيعتقد البعض أنني أُكبّر من حجم هذا الحدث، لكن على العكس تماماً بل أحاول إعطائه حقه وحجمه المُناسب؛ لأن الطريقة الوحيدة لتحسين الأمور هي بالتحدث عنها ونقدها نقداً بنّاء.

لا أشير في هذه المقالة إلى أن الدولة الفرنسية وباقي الدول الأوروبية أصبحت دولاً ديكتاتورية، بل ما زالت تلك الدول تُقدم أفضل الخدمات لسكانها والحفاظ عليهم وسلامتهم، لكن في نفس الوقت، تبقى هُناك بعض المُمارسات التي تُمارسها تلك الحكومات غير ديمقراطية وغير حكيمة والّتي تخالف المبادئ والقيم العالمية.

إذا أرادت دولة أن تتخذ "إجراءات أمنية" فعليها تفتيش الكل، وليس "البعض".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد