ثمة تناقضات واضحة في عالمنا العربي الكبير تحكم سلوك الفرد في مختلف مجالات تفاعله الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والمهني، ففي الوقت الذي يمتلك فيه العالم العربي رصيداً دينياً ولغوياً هائلاً يدعو إلى التآلف ونبذ الفرقة والشقاق، والتعاون على تحقيق الأهداف النبيلة والتواصي بالحق والتنادي لنصرته، بل والتنازل عن حظوظ النفس في سبيل تحقيق الغايات السامية، إلا أن المتابع يلحظ نزعة فردية استثنائية في العقل العربي، وهي نزعة تزداد غرابة في ظل الأخطار الداهمة التي تتعرض لها منطقتنا.
هذه الأخطار التي تدعو أشد الأمم عداوة إلى تناسي خلافاتها للصمود أمام العواصف، تُقابل في العالم العربي بحالة عابثة من اللامبالاة والتقوقع على الذات ومصالحها.
يسود منطق الصراع في الغاب بسبب ندرة أسباب البقاء، وغياب منظومة العدالة التي تُنصف الضعيف وتأخذ الحق له من القوي، وتهيّئ له أسباب الاستقرار المادي والنفسي، ولذلك تختفي كل أشكال الانتماء سوى الانتماء للذات، فتأكل المخلوقات بعضها دون رحمة، ويصبح المنطق الإيثاري مجرد فكرة عبثية تُودي إلى الفناء والزوال أمام وحوش كاسرة تحركها نزواتها الغريزية للفتك والقتل والتلذذ بكل ما يمكن التلذذ به، وعليه يصبح منطق الصراع مبرراً لتلبية الحاجات الطبيعية للمخلوق.
في العالم العربي عمدت أنظمة سايكس بيكو جاهدة إلى تدمير ولاء الفرد وانتمائه للوطن، وصار الانتماء الوحيد للمنظومة الحاكمة فقط، فحاولت الدولة جاهدة احتكار أسباب البقاء، وخلقت حالة من النُدرة تشبه ندرة الغاب؛ سعياً منها للتحكم بموقف الفرد وسلوكه وتفكيره واتجاهاته، فنشأت حالة ضمنية من مقايضة الفرد أو مساومته بين لقمة العيش أو الانسجام مع الفلك الرسمي للدولة. وهنا برز تصادم واضح بين الجانب الطبيعي الغريزي لدى الإنسان العربي، وبين موقفه الفكري المُنتظر.
منطق التضحية والتسامي على حاجات الجسد وفاءً لقيم الحق والعدل والجمال هو الاستثناء؛ لأنه منطق غير رابح بمقاييس التجار، ولكنه ليس كذلك بالنسبة للأحرار، إذ لم يقدم عليه، تاريخياً، إلا قلة نبيلة تؤثر التضحية في سبيل التغيير، في حين أن الغالبية عادة ما يثقلها النداء الغريزي، فلا تلبث أن تضعف أمام هذه المقايضة الضمنية بين الموقف الفكري والنداء الغريزي.
بيد أن هؤلاء النبلاء المفعمين بالتضحية والروح الإيثارية كانوا على الدوام رواد التغيير في حركة التاريخ، بل سداً منيعاً يتكسر عليه ما يظنه الناس حتمياً أو عصياً على الزوال أو التحقق.
وبعد خيبات أمل متعددة توالت على وجدان الشعوب العربية الطامحة في التغيير، يلحظ المتأمل تعالي دعوات هدامة تسعى إلى تزهيد الناس في كل القيم التحررية والإيثارية من جانب، والقبول بمقايضة الدولة الضمنية للفرد بين موقفه الفكري وحقوقه الطبيعية من جانب آخر؛ ولأن قلة هم مَن يصمدون، كانت النتيجة أن تعزز النفاق، ولم يعد الكلام وسيلة للتخاطب، بل أداة لكسب الولاء واستمطار الرضا واستنزال رحمات الدولة ونعمها، واستحالت دوافع السلوك الإنساني دوافع غريزية للبقاء والصمود، وتبلور تنافس محموم يشوبه الحقد والحسد والغل بين الأفراد لإثبات الولاء للدولة وليس للوطن، فلم يعد الفرد هو الذي يتكلم، بل غريزته، ولم يعد الكلام تعبيراً عن أفكار بل تنفيساً عن أنين الرغبات.
تفضل الدولة العربية التعامل مع المجتمع كأفراد منفصلين كل على حدة، لا ككتل موحدة، ويزعجها تبلور حالة من حالات الإرادة العامة تنتزع حقوقاً أو مكتسبات على نحو محرج لها، مهما كانت مطالب هذه الكتل عادلة أو سامية أو إنسانية أو نبيلة؛ ولذلك لا تألو الدولة جهداً في تعزيز النزعات الفردية، ومحاربة الطابع المؤسسي، وشق صفوف النقابات والاتحادات المهنية والرياضية والتكتلات القبلية حتى لو كانت في قمة نجاحها وعطائها، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك شيطنة المعلمين الفلسطينيين ورميهم بكل نقيصة، شتاء العام الماضي، حين أضربوا عن عن العمل مطالبين بقليل من حقوقهم الضائعة، حيث تحول المعلم فجأة، من رمز نبيل لدى كل الأمم، إلى مخلوق جشع في الإعلام الرسمي الفلسطيني، والأمر ذاته ينطبق على شيطنة رابطة مشجعي النادي الأهلي المصري بسبب مواقفهم المساندة للحق.
عززت هذه المواقف التجزيئية التي ترعاها الدولة السلوك الفرداني والأنانية والحسد لدى فئة غير قليلة من الشعوب العربية، لا سيما حين يرقب الفرد زميله الفاشل على مقاعد الدراسة وقد نال حظوة ومكانة لدى الجهات الرسمية، في حين لم تسعف هذا الفرد مهارات نفاقه وولائه لكسب وُدّ الدولة؛ لأنه، ويا للأسف، لا يملك سوى مؤهلات علمية وأخلاقية وفكرية، وهي مؤهلات تصلح لمدينة أفلاطون الفاضلة، لا لحظيرة خنازير يبيع الفرد فيها شرفه وعذريته ليأكل!
وهكذا تحولت الفردانية إلى ثقافة تحكم سلوك الكثيرين في العالم العربي وتشكل طريقة تفكيرهم، فصار الكثيرون شديدي التوجس من فكرة العمل الجماعي والعمل ضمن فريق، فمعظم قصص النجاح العربية قصص فردية كجراح سوري ناجح في أميركا، ومهندسة عراقية مبدعة في بريطانيا، ومفكر فلسطيني متميز في فرنسا.. إلخ، ففي هذه الميادين البعيدة عن هيمنة الدولة العربية، تظهر الكفاءات الحقيقية في أكثر صورها إنصافاً وإشراقاً وتوهجاً؛ وهي نماذج مضيئة تشير بأصابع الإدانة إلى كيانات سايكس بيكو التي تُقصي الجيد وتبعده وتُدني الرديء وتقربه.. ثم تشبع الناس حديثاً عن الانتماء والوطنية وتمكين المواطن.. وهي مفارقة ساخرة يصفها الفيلسوف الألماني نيتشة بعبارته: "إنكم تحشون أفواهكم بأنبل الكلمات لإيهامنا بأن قلبكم يتدفق عَطفاً، وما أنتم إلا منافقون".
ولا يغفل القارئ هنا عن استحضار المفارقة الساخرة التي تنتهجها مؤسسات التوظيف العربية عند الإعلان عن وظيفة ما بأن من أهم الشروط المطلوبة في الموظف هي "العمل ضمن فريق" وهي مفارقة على سخريتها تظهر حالة التعطش المرَضي في العالم العربي لتَمثل الجماليات والطوباويات لا لذاتها، ولكن لتبعات تمثلها من الظهور بمظهر مثالي فقط، وليس وراء المظهر ذرة من عمل.
قصص النجاح الفردية في العالم العربي لا يكتب لها التوفيق إلا إذا كانت بعيدة عن الرعاية الرسمية للدولة، كنبتة مُورقة خضراء تنمو في صخرة صماء، فإذا رعتها الدولة لا تلبث أن تذوي وتموت؛ ذلك أن كيانات سايكس بيكو لم تُصطنع لتحقيق النجاح أصلا؛ بل على العكس من ذلك هي كيانات وظيفتها الإفناء والتبديد والكبح والإعاقة وليس التشجيع والدعم.
وغني عن البيان حالة الخصخصة المحمومة التي تنتهجها الأنظمة العربية هذه الأيام لمؤسسات حيوية وسيادية تمس الحياة اليومية للمواطن العربي، فبسبب من محاربتها للفكرة المؤسسية الجماعية، فقد خلقت لنفسها مشكلة إدارية، فعجزت عن إدارة مؤسساتها، وليس العجز هنا فشلاً بقدر ما هو سلوك منسجم مع الطبيعة التي ميزت هذه الكيانات التي أفرزتها سايكس بيكو، فهي كيانات لم تُصطنع للقيام بالواجب، بل لتكريس اللاواجب، واللاجدوى، والعدمية، والشرذمة، وكل ما يكرس التراجع الحضاري.. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.