حين كنا نشاهد -في الأفلام المصرية- السخرية من فكرة (استحلال أموال المشركين)، كنا نظنها مبالغاتٍ سمجة من القصّاص، أو ربما شطحاتٍ شاذة تتبناها قلّةٌ من صبية الجماعات المتطرفة كـ(داعش) وأخواتها.
لكن بالبحث وبالتقصي والتحري، توصلتُ إلى حقيقةٍ مفادُها أن تلك الفكرة الدخيلة على شريعة الإسلام لها جذورٌ تاريخيةٌ تعود إلى قرونٍ خلت!
أول مَن سقط هذه السقطة كان العلامة ابن قيم الجوزية (691 هـ – 751 هـ) وذلك في كتابه -رغم ما فيه من الفوائد- (الداء والدواء)، وهو يتحدث عن الشرك: حرَّمَ اللهُ الجنةَ على كل مشرك (وأباح دمه وأهله لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيداً لهم) لما تركوا القيام بعبوديته.
انتهى كلامه (من كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص 252).
ثم تلقفها منه تلميذه الحافظ ابن رجب الحنبلي (736 هـ – 795 هـ) يقول تعليقاً على حديث "بُعثت بالسيف بين يدي الساعة" (وهو ضعيف) ما نصه:
وإنما بعثه داعياً إلى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، (ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم).
انتهى كلامه (من كتابه الحكم الجديرة بالإذاعة).
لا شك أنها كبوةُ جواد، وسبقُ قلمٍ وقع فيه إمامان كبيران من أئمة المسلمين، لكن وكما قال إمامُنا مالك بن أنس: (كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر)، وصدق من قال: (لا يُعرفُ الحقُّ بالرجال).
هدأت الأمور قروناً حتى جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1115 – 1206هـ) فنبش هذا التراث الرديء ليعيد إحياء تلك الأقوال المتهافتة من جديد، يتحدث عن كفار مكة فيقول:
وكانوا أيضاً يتصدّقون ويحجون ويعتمرون ويتعبّدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفاً من الله عزّ وجل، ولكن الأمر الثاني هو الذي كفّرهم (وأحلّ دماءهم وأموالهم) وهو أنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية.
انتهى كلامه (أما ثناؤه السمج على كفار مكة، فهو تمهيدٌ لتكفير مخالفيه وليس هذا موضوعنا هاهنا)، (من رسالة معنى لا إله إلا الله، ص 2).
وما لبثت الفكرة المرذولة إلا أن طارت إلى العراق؛ ليأخذها عنه أحدُ المتأثرين به، وهو الشيخ محمود شكري الألوسي (1273 – 1342 هـ)؛ حيث كفّر الشيعة وقال فيهم ما لم يقله مالكٌ في الخمر، يقول:
وكالإثني عشرية، فقد كفرهم معظم علماء ما وراء النهر، وحكموا بـ(إباحة دمائهم، وأموالهم وفروج نسائهم)؛ حيث إنهم يسبون الصحابة -رضي الله عنهم- لا سيما الشيخين.
انتهى كلامه (من كتاب صب العذاب على من سب الأصحاب، ص 383).
ثم انتقل هذا الفيروس الخطير لجميع تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومريديه!
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين (عضو هيئة كبار العلماء) ما نصه: قوله ولكن أنا مذنب.. الخ، هذا بقية كلام المشبه، فأجبه بأن ما ذكرت هو ما كان عليه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم (واستباح دماءهم ونساءهم وأموالهم)، ولم يغنهم هذا التوحيد شيئاً.
انتهى كلامه (من كتاب شرح كشف الشبهات والأصول الستة، جـ 7، ص 60).
كما يقول: وفي هذا دليل على أن الكفار إذا قوتلوا فأموالهم حلال لنا كما أننا (نستبيح دماءهم فنستبيح أموالهم) من باب أولى، وكذلك أيضاً (نستبيح نساءهم وذرياتهم يكونون سبياً لنا ويكونون أرقاء) للمسلمين؛ لأننا نأخذهم بكلمات الله -عز وجل- بأمره ودينه وشرعه.
انتهى كلامه (من كتاب شرح رياض الصالحين، الجزء 5، صفحة 96).
ثم جاء دور الشيخ صالح بن فوزان الفوزان (عضو نفس الهيئة "كبار العلماء")؛ ليقول: المشركُ حلال الدم والمال؛ لقول الله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).
انتهى كلامه (من كتاب التوحيد، فصل الشرك، النقطة 5).
هذا الهوس بفكرة السبي والاستعباد، يسيطر على مريدي الشيخ النجديّ بطريقة لا تخطئها عين، والحقُّ أن الإسلام لم يشرع الرقّ وإنما شرع العتق (تحرير الرقاب) وليس في كتاب الله تعالى آيةٌ واحدةٌ تتعبد المسلمين باتخاذ الأرقاء فضلاً عن سبي النساء، وإنما وقع السبي عند المسلمين الأوائل لضرورةٍ عسكريةٍ لا شرعية، هي ضرورة المعاملة بالمثل، وقد عالج التشريع الواقع ولم ينشئ الأصل، والفرق بين الأمرين كبيرٌ لمن عنده أدنى معرفة بالأصول
يقول الشيخ صالح الفوزان: مَن ينكر السبي فهو جاهل بدين الله، ويرتقي إلى درجة الملحد والكافر (انتهى كلامه).
وفي أحد دروس الشيخ أبو إسحاق الحويني المنتشرة على يوتيوب يشرح مفهومه للجهاد ويبين كيفية زيادة دخل خزينة الدولة الإسلامية بغية تحسين وضعها الاقتصادي عن طريق الغزو! وليتم تقسيم سكان القرية المستباحة على جيش المجاهدين! ويأخذ كل واحد منهم نصيبه من السكان رجالاً ونساء وأطفالاً ثم يذهب ليبيعهم في سوق النخاسة لتحسين وضعه المادي.
ولو أننا جمعنا أكثر خصوم الإسلام لدداً وحقداً، لما جاءوا في تشويه الإسلام والتشويش على مفاهيمه بأسوأ مما قاله الشيخ -سامحه الله وهدانا وإياه إلى الحق- وصدق الشيخ عادل الكلباني إمام الحرم المكي سابقاً حين قال: "داعش نبتة سلفية".
أختم بثلاث ملاحظات:
الأولى: أن جمهور أهل العلم قد قرروا عصمة دماء وأموال جميع الناس، واستثنوا من ذلك الكافر الحربي فقط، وفي ميدان المعركة فقط، وحال قتاله للمسلمين في دينهم فقط.
خالف الشافعيةُ في هذا حين قصروا العصمة على المسلم، وقد ناقشهم في هذا الرأي فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في موسوعته (فقه الجهاد: دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسُّنة) وأثبت خطأ مسلكهم.
الثانية: أن تيارات الغلواء المعاصرة قد اقتطعت أقوال أهل العلم -في مسائل الجهاد وغيره- من سياقاتها التاريخية والظرفية ومن سابقها ولاحقها، وأسقطوها إما على غير زمانها وشخوصها! أو على مسلمين يخالفونهم فيكفرونهم، ليعاملوهم وكأنهم مشركو مكة!
وبعضُ هؤلاء لا يكاد يدرك أو يفهم أننا من أضعف الأمم عسكرياً، وأن هناك دولاً تملك محو بلادنا من على خريطة الدنيا باستخدام مخزونهم من الرؤوس النووية.
فوقعوا بذلك في سلسلة من الخطايا المركبة! قصور في قصور، من فوقه قصور، ومن تحته قصور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الثالثة: لا أسرّها في نفسي بل أُبديها لكم: عجبتُ لقومٍ أغير على ابن القيم وابن رجب من غيرتهم على شريعة الله تعالى!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.