هل الوطن أرضٌ أم شعور؟

يذهب بي الخيال إلى غفران التي تجلس هناك بالموصل في بيتنا وهي تتلو وتدعو بكل آيات الحب أن يهبها الله القدوم إلى هذه المدينة، عشقت إسطنبول وهي لم ترَها فكيف إذا رأتها بأم عينيها، وحدقت النظر إلى معالمها وتراثها وأزقتها، كيف لو سارت ليلاً في أزقة الفاتح القديمة أو جلست بالقرب من الساحل تحت ظلال القمر تناجي البحر ورب البحر أن يحقق أحلامها التي ربما لا تنتهي مع نهاية ساحلها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/08 الساعة 01:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/08 الساعة 01:52 بتوقيت غرينتش

هل هو اسم المكان الذي كتبت فيك أوراقك الرسمية، أم أن الوطن شيءٌ آخر مكان تحسه، مكان تكلمه ويكلمك، تحس أنه يشعر بالاشتياق لك كما تشتاق له، وتبقى رائحة أشجاره وشوارعه وأزقّته عالقة في أنفك وتتراءى لك صورة كلما أغمضت عينيك؟

هل هو مكانُ ذكريات الماضي والطفولة أم تطلعات المستقبل وطموحه؟

هذه التساؤلات تجعلني أعود بذاكرتي إلى قبل عام، ومن باب القدر سألت إحدى طالباتي من أهل الموصل إذا تحررت الموصل هل تتركين إسطنبول وتعودين إلى الموصل؟

قالت: أجل سنتركها ونعود للموصل، إلى أهلنا وأقربائنا وأختي القابعة هناك تحت نيران الحرب والظلم، نعود إليها ونبقى بين أهلنا وفي مدينتنا.

وبدأت تتكلم عن والدها وعمله المتواصل الدؤوب لأجل إعالتهم وجلب الرزق لهم.

في نفسي قلت: تتغير الحقيقة إلى خلاف ذلك إذا تحررت الموصل، وخصوصاً أنها تسكن هنا بإسطنبول من لم يرَها لم يرَ الدنيا جميلة بكل شيء فيها من الحجر إلى البشر.

وقبل أيام ومن باب الاطمئنان سألتها: هل عدتم إلى الموصل؟
قالت: قريباً سنعود للموصل وسنعمل جاهدين لترتيب شؤوننا لنعود إلى إسطنبول.
لماذا ألم تكوني تريدين العودة إلى الموصل؟
قالت: نعم، لكن إسطنبول مختلفة عن كل مكان في العالم.

قلت لها: بالأمس كنت تتمنين الرجوع واليوم تحرصين على البقاء، إنها إسطنبول العجيبة التي تأسر كل مَن يقصدها ويأتي إليها.

قالت: والله ما قلته تماماً هو الذي يدور في خلجات نفسي، وأضافت قائلة: كان حلم حياتي أن أعيش في هذه المدينة فأنا أحب إسطنبول كثيراً، وقد تحقق الحلم وعشت بها، وسأعود لأكمل بها بقية حياتي.

يذهب بي الخيال إلى غفران التي تجلس هناك بالموصل في بيتنا وهي تتلو وتدعو بكل آيات الحب أن يهبها الله القدوم إلى هذه المدينة، عشقت إسطنبول وهي لم ترَها فكيف إذا رأتها بأم عينيها، وحدقت النظر إلى معالمها وتراثها وأزقتها، كيف لو سارت ليلاً في أزقة الفاتح القديمة أو جلست بالقرب من الساحل تحت ظلال القمر تناجي البحر ورب البحر أن يحقق أحلامها التي ربما لا تنتهي مع نهاية ساحلها.

وليس ببعيد عن غفران إلا محمد الصادق، الطفل الصغير الذي ما رأى في بلده رغم أنه لم يبلغ ستة أعوام إلا ثلاث مرات نزوح، رأى نهر دجلة وهو نازح، ومشى لأجل أن ينجو بنفسه ثماني ساعات يتحدث عن كل هذا الألم، وكيف أن الطائرات كانت تقصفهم ليلاً، أمله وحلمه وهدفه أن يكون له جواز ليأتي إلى إسطنبول، يطلب العهود مني لكي أستخرج له جوازاً ليزور المدينة التي سمع عنها أكثر مما رآها.

كل من سكن فيها يشكو كبر مساحتها ووسعها وطول المسافات بين أحيائها، لكن رغم كل هذه الشكوى، فترك إسطنبول ليس بالأمر السهل ولا المستوعب، مدينة تنسيك الوحشة، مدينة لا تكاد تشعر فيها بالغربة، مدينة تأسرك بجمالها من أول لحظة تضع بها قدميك على أرضها.

مدينة تعبر فيها الشارع مع آلاف من البشر، كمية البشر تنسيك التعب، أشياء كثيرة تجعلك تنسى حتى نفسك التي قد أجهدت كثيراً.

وحقيقة أن الذين يتركون بلدانهم ويسكنون في بلدان أخرى يشعرون بصدمة عند عودتهم، وكنت قد اطلعت على تقرير بهذا الخصوص خلاصته هو:
1. لا يستطيع بعض المغتربين التكيف لفترة طويلة مع حياتهم الجديدة في وطنهم القديم، ويعانون من صدمة ثقافية عكسية.

2. في بعض الحالات، يعود المغترب إلى وطنه ولا يتمكن من استئناف حياته من حيث تركها.

3. حتى بالنسبة للمغتربين الذين يذهبون في مهام أقصر أمداً فإن العودة إلى الديار يمكن أن تثبت أنها ثورة كبيرة.

4. والغالبية العظمى من الشركات (78 في المائة حسب دراسة حول التنقل بين البلدان للعمل) لا تتابع عملية الحفاظ على الموظفين بعد عودتهم إلى أوطانهم.

لكن تلك الشركات التي تفعل ذلك، تقول 52 في المائة منها إن ما يتراوح ما بين صفر وعشرة موظفين تركوا العمل في غضون سنة أو اثنتين من عودتهم للوطن، بينما قال 24 في المائة منهم/ إن ما بين 11 و30 موظفاً يتركون عملهم في تلك الفترة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد