لكل معبد كهنته، وكهنة معابد الاستبداد علماء السوء، أو الذين سماهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بديدان القراء، ونضيف إلى كتيبة كهنة معابد الاستبداد اليوم، الأدباء والشعراء والفنانين والرياضيين والسياسيين ورجال الأعمال، الذين يفتلون جميعهم في حبل الاستبداد وترسيخه وتمكينه.
كهنة معابد الاستبداد ليسوا حالة طارئة تعاني منها الأمة الإسلامية، بل هم حالة عانت منها شعوب الأرض، وعلى رأسها شعوب أوروبا القرون الوسطى، أوروبا تحالف الباباوات مع الإقطاع، والتي لم تتخلص من هذا الوباء المدمر إلا بعد قرون من القهر والتسلط باسم الدين وبمباركة كهنة الكنائس، الذين كنزوا الذهب والفضة وأكلوا أموال الناس بالباطل، بعدما اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
كان شعار الثورة الفرنسية: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، ثم كان بعده شعار: "اترك ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، تخلصت على أثره أوروبا من الاستبداد، بعدما تفاهمت مع كهنة المعابد، الذين توجهوا مع جيوش فرنسا اللائكية، وعموم جيوش دول الاستعمار، نحو العالم الجديد، مبشّرة بالدين الجديد، دين الإخاء والحرية والعدالة.. ويا لَلعجب!
على كل حال، هذا ليس موضوعنا الرئيسي، إنما نريد أن نعود قليلاً إلى الوراء؛ لنبحث عن جذور نشأة كهنة معابد الاستبداد؛ إذ لكل أمة مهتدون وفاسقون، حرفوا الدين واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
كانت بعثة سيدنا عيسى -عليه السلام- حلقة في سلسلة الوحي، وكانت رسالته تذكيراً بما تركه ونسيه الفاسقون الأولون من الأمة الموسوية من دين الله تعالى.
في سنة 306 تنصّر قيصر الروم قسطنطين سنة 306 للميلاد، فضم الكنيسة المضطهدة إلى أحضان الدولة، واصطنع الأساقفة، وقربهم ليكونوا سنداً للحكم.
ومنذ ذلك العهد بدأ الوصال الأنكد، ففي سنة 325 حتى انعقد مجمع نيقية؛ حيث اتفق أساقفة الكنيسة على طرد أصحاب المذهب الأرياني الذين كانوا يقاومون عقيدة تأليه المسيح عليه السلام.
بدأ الفاسقون، كما وصفهم الله عز وجل في كتابه، في ممارسة التحريف والاتجار منذ عهد قسطنطين.
يقول الراهب جروم: "انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، حتى كانوا (…) ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران (…)، ويمنحون شهادات النجاة، وإجازات حل المحرمات والمحظورات كأوراق النقد وطوابع البريد! ويرتشون ويُرابون".
لم تكن الأمة المحمدية بدعاً من الأمم، ولم تكن لتُستثنَى من سنة الله في عباده، وكما ظهر فاسقون في الأمتين الموسوية والعيسوية، فكذلك ظهر فاسقون في هذه الأمة المحمدية، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، فأفتوا لحامل السيف الخارج على الأمة بالبغي والعدوان، بقطع رؤوس المعارضين وسبي نسائهم واحتواش أموالهم، كل ذلك وفق "الكتاب والسنة"، اللذين أوّلوا نصوصهما تأويلاً وتحريفاً.
في الحالة الإسلامية، ظهر كهنة الاستبداد مبكراً، وهم الذين مكنوا للاستبداد الأموي ومن جاء بعده؛ ليتسلط على رقاب المسلمين بالسيف والقرآن.
لم يتفاجأ المسلمون بظهور كهنة معبد الاستبداد، لقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبكراً من ظهورهم، كما حذر القرآن الكريم كذلك، وأعطانا أوصافهم وأفعالهم.
لم يكن بمقدور حكام الجور المتسلطين على الأمة أن يحكموها ويبسطوا نفوذهم عليها لولا أئمة الضلالة، ديدان القراء على أبواب السلاطين.
فعبر فتاوى هؤلاء نصبت المشانق لخيار الأمة وحكمت الأمة بالحديد والنار.
استندوا إلى الدين فجعلوا البيعة ربقة في عنق المتقين.
استغل كهنة معابد الاستبداد أحاديث السمع والطاعة للأمير وأحاديث النكير على مَن فارق الجماعة وعلى مَن مات وليس في عنقه بيعة وأحاديث الصبر على جور الأمراء وظلمهم، فأوّلوها على هوى الحاكم ونزواته وأنزلوها منزلة الفريضة من الدين، التي ما يزيغ عنها إلا هالك، فشرعنوا للأمير المتسلّط على الرقاب ببيعة الإكراه، ضرب الرقاب وجلد الأبشار وأخذ الأموال.
إن المسلمين اعتادوا الطاعة للحاكم، وقيلَ لهم كما قيل لآبائهم وأجدادهم منذ قرون: إن طاعة أولي الأمر من طاعة الله ورسوله.
وانطبعت في نفوس الأجيال خُطَبُ الجمعة التي ترفع "أمير المؤمنين" و"ظل الله في الأرض" إلى مراقي العصمة، ورسخت في أذهانهم ومخيلاتهم تهاويل الحفلات "الدينية" المصنوعة لتزيين صورة الحاكم وتقديسه.
رسخ الفسقة في أذهان الناس، ترغيباً وترهيباً، أن بيعة المتسلط من بيعة الله ورسوله، على السمع والطاعة في العُسر واليُسر، والمنشَطِ والـمَكْرَه، وعلى أثَرَة عليهم، وعلى ألاّ ينازعوا الأمرَ أهله.
فعمل سيف المتسلط -مسنوداً بفتوى الفسقة- عملَه، حتى أضحت الأمة قطيعاً يسوقه الحاكم حيث يشاء ويهوى، وحيث يشاء يهوى أسياده من المستكبرين في الأرض.
في سنة 1774، سيقع الوصال الأنكد بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، الذي سيصبح رمزاً لمذهب الدولة السعودية، وعلى فتاواه ستبنى وتتمدد.
وجد آل سعود ضالتهم في استباحة المذهب الوهابي للدماء والأعراض والأموال، بناءً على فتاوى شاذة مارقة عن الدين معطلة لأحكامه ومقاصده ومطالبه.
بُني حكم آل سعود على مبدأ الطاعة للحاكم مهما جار ومهما فسق، بناءً على تأويل أحاديث بما يناسب هوى الحاكم وجبروته وتسلطه.
من هذه الأحاديث التي رفعت في وجه الأمة: "من أكرم سلطان الله أكرمه الله، ومن أهان سلطان الله أهانه الله"، و"من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني"، و"من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية"، واعتماداً على ما أوردوه من كلام من سبقنا بالإيمان، كقول الإمام الطحاوي: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة"، وغيرها من كلام السلف.
أما المعاصرون من فقهاء المذهب، فقد ذهبوا أبعد من ذلك في فتاواهم، فقد ورد عن عبد العزيز بن باز، أنه نصح الجميع بلزوم السمع والطاعة، وحذر من شق العصا والخروج على ولاة الأمور، إذ اعتبر ذلك من المنكرات العظيمة، وأن ذلك دين الخوارج والمعتزلة، ومن شاقق يقتل لأنه يفرق الجماعة ويشق العصا.
هل كان سيدنا الحسين -عليه السلام- خارجياً لما خرج ضد يزيد؟ أليس هذا حكماً ضد مَن خرجوا ضد الإمام عليّ كرم الله وجهه؟
أما ابن العثيمين، فقد اعتبر أن البيعة ليست لازمة لكل واحد من الناس، ورعاع الناس تابعون لأهل الحل والعقد، فإذا تمت البيعة من أهل الحل والعقد؛ صار المُبايع إماماً، وصار ولي أمر تجب طاعته في غير معصية الله، فمن مات وهو يعتقد أنه ليس له ولي أمر، وأنه ليست له بيعة، فإنه يموت ميتة جاهلية.
كيف يتم اختيار أهل الحل والعقد؟ ومَن يختارهم؛ كي يكونوا نواباً عن الرعاع من الناس؟
كيف تتخلص الأمة المحمدية من هذا الفسق دون أن تنسلخ عن دينها، ودون أن يحصل الفصام النكد بين الدعوة والدولة؟
كيف نتخطى فقه كهنة معابد الاستبداد، نحو فقه يجدد للأمة دينها ويُنهضها من غفلتها وكبوتها؟
كيف تشق الأمة المحمدية طريقها الثالث، من دون أن تزيغ عن الهدي والمنهاج النبوي، كما زاغت الأمتان الموسوية والعيسوية؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.