الآن سأضع كتابك على أرفف مكتبتي الصغيرة، لكن سأنقشه في ثنايا ذاكرتي، لا يمكن لأحد أن يقرأ كتابك المعنون بـ"يوميات غوانتانامو" دون أن تلعق ذاكرته مرارة تلك اللحظات من الترحال بين سجون العالم.
المُبحِر عبر صفحات يومياتك تلامسه روحك الساخرة، التي تحاول جاهدةً في عناد "بيضاني" الصمود -ولو للحظات- أمام حفلات التنكيل والتعذيب. كتابك على غير العادة، جاء مزخرفاً من الداخل بريشة الرقيب، الذي أحياناً تعتريه حالة من السريالية تجعله يشطب على صفحات كاملة منه، فلا تهتم، لا يمكن للرقيب أن يعصب عيني عن تلك المعاناة، كما لا يمكنه أن يكتم زفراتك التي تتنهد بين ثنايا الكلمات.
مذ سنوات، اختطفتني روايتان لعبد الرحمن منيف إلى قبو مآسي الاعتقال السياسي في المنطقة العربية، الروايتان هما: "شرق المتوسط" و"الآن..هنا"، كانت الصفحات تقدم نفسها حطباً لنار المعرفة؛ من أجل كشف غطاء هذا الواقع المُر وهذه الحياة الموازية المليئة بالعذاب والإهانة لكل من جرّه حظه العاثر إلى معتقلات الـ5 نجوم.
الكاتب أشار إلى شرق المتوسط على أساس أن هذا النوع من التعذيب بالسجون هو ماركة عربية، إلا أنه لم يدرك أنه علامة دولية تمارَس بطرق أشد قساوة وأكثر احترافية غرب المتوسط، وما معاناة محمد ولد الصلاحي إلا تجسيد بسيط لذلك.
قرأت أيضاً محنة "تازمامارت" من خلال رواية "الزنزانة رقم 10" للمعتقل المغربي السابق أحمد المرزوقي وكيف كان الموت يمر بطيئاً بين حجرات المعتقلين، حيث يلفُّهم النسيان ويؤنسهم الأنين، اختفاء دون موت وانبعاث بلا حشر.
الروايات حبلى بالمعاناة والألم، إلا أنها غالباً ما تتمخض في الأخير بعد طلق مرير عن ميلاد فرحة مغصوبة، تتمثل في الإفراج عن أبطال الرواية ليعانقوا الحرية. كان الكُتاب من خلال هذه النهايات يأملون وضع حد لهذه الممارسات، لكن كل هذه الآمال تحولت إلى سراب مع تضاعف كمية العنف التي شابت ثورات الربيع العربي؛ بل وصلت إلى مدى لم يسبق له مثيل في القتل بشتى الوسائل.
فبدل أن تتوقف سلسلة التعذيب امتدت ولفّت عنق الإنسانية، في حالة من الهرج والمرج والعبث الهستيري، وما ملف قيصر ببعيد، تلك الصور التي ارتج لها العالم، صور مؤلمة لآلاف السجناء والمعتقلين، موتى بأجساد مترهلة هزيلة زخرفتها ريشة التعذيب، وصلت إلى أقصى مداها في التشبث بالحياة، إلا أنها أسلمت روحها بعد أن رشف التعذيب كل طاقتها. آثرت أن تحكي قصتها هذه المرة عبر صور مسربة؛ فالكتابة عجزت عن وصف هول المجزرة.
أدب السجون حاول تقريب القراء من مستنقع التهم ويلتهم أناساً نتيجة آرائهم وخلفياتهم السياسية أو حتى الذين سقطوا فيه من دون تهمة سوى حظهم العاثر، كما حاول إثارة الانتباه إلى حياة الظل التي قد تكون قريبة منا في سرداب مخفر أو سجن شائك أو بناية مهجورة.
كتابات تأبى أن تكون مركونة في الرفوف بقدر ما تسعى إلى جعل ذكراهم متوقدة في ضمير الإنسانية تخزه كل حين؛ حتى لا يُنسَوا في ظلمات المعتقلات.
أدبٌ يهدف إلى خلق حالة من الترافع الإنساني من أجل كشف عورة الاعتقال السياسي والاختفاء القسري، وإنقاذ بقايا الإنسان، الذي ما زال يقبع تحت غواشي التعذيب، هدف يبقى بعيد المنال شرقاً وغرباً، في ظل ممارسات تحتفي بالعهود والمواثيق ظاهراً وتذلها باطناً، ولكن حتماً سنصل جميعاً إلى مجتمع يحترم حقوق الإنسان ويصون كرامته ويعمل من خلال مؤسساته الدستورية.
يقال: كلما سارع الإنسان الخطى إلى مشكاة التطور والحضارة، ازداد ظله ظلمةً وقتامةً، إلا أنه مهما تكدست حلكة الليل بدَّدها نور الفجر الرفيع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.