“عربي بوست” في أوروبا مع مهاجرين فضّلوا أقبية الكنائس والسجون على العودة إلى الديار

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/03 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/03 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش

قبل أشهر، انطلقنا في رحلة لتوثيق المسار الصعب للمهاجرين حتى وصولهم إلى أوروبا، تحدَّث إلينا عدد ممن التقيناهم عن انتظارهم الجنّة في أوروبا.. في هذا التحقيق، نرصد الرحلة الأصعب لهؤلاء المهاجرين على الأرض الأوروبية، ما الذي يفعلونه بعد وصولهم؟ كيف يعملون؟ وكيف يرون مستقبلهم؟ وأولاً، وقبل كل شيء: هل وجدوا ما توقعوا حقاً؟

تجربة باوباب


خيام متناثرة على أرض ملعب مهجور، وأسلاك شائكة مهترئة تحيط بالخيام، ولاجئون سُمر البشرة يخترقون الأسلاك بيُسر كي يصلوا إلى خيامهم، أحدهم يصلي أمام خيمته وزوجته المحجبة تجلس بجواره، وآخرون يتحلّقون حول رفيقهم الذي يحكي قصة بلغة إفريقية محلية، تبدو مشوّقة، جذبت انتباههم. بدا المشهد مشابهاً لما يمكن أن تراه في مخيم للاجئين على الحدود السورية مع تركيا أو الأردن، لولا أننا كنا نقف في أرض يحتلها أفارقة وعرب برعاية منظمة أوروبية تُسمى "باوباب" على مرمى حجر من محطة قطارات "تيبورتينا"، شمال شرقي العاصمة الإيطالية روما.


لم نر محمد عندما دخلنا مخيم "باوباب" للوهلة الأولى. فالشاب، الذي يقول إنه أكمل الثامنة عشرة قبل أشهر -على الرغم من أنه يبدو أكبر من ذلك بسنوات- يقضي وقته بين قيادة الدراجة بالقرب من المخيم، ومشاهدة مباريات الدوري الإيطالي لكرة القدم في حانة لا تبعد كثيراً.

"هذه هي المرة الثانية لي بإيطاليا، لقد رحّلوني في السابق، لكني عدت مرة أخرى".

يخبرني محمد، الذي يحب أن يطلق على نفسه اسم "ميمو"، بابتسامة واثقة، بأن الإيطاليين قاموا بترحيله إلى مصر عند وصوله على متن قارب إلى صقلّية في الجنوب، لم يقتنع المسؤولون بأنه أصغر من 18 عاماً، وبموجب اتفاق أبرمته السلطات الإيطالية والمصرية، أُبعد ميمو إلى القاهرة بالتنسيق مع السفارة في روما، بعد أن قضى أياماً بضيافة الشرطة.

لكن ميمو يقرر أن يعود من جديد، يذهب إلى المهرّب الذي أحضره إلى إيطاليا في المرة الأولى، ويحصل منه على الأموال التي دفعها له قبل السفر، ويقرر التجربة من جديد مع مهرّب آخر.


يصل ميمو هذه المرة إلى صقلية بعد أيام طويلة في البحر، ويساعده الحظ هذه المرة؛ إذ استغرق المسؤولون وقتاً أطول في بحث ملفه، وهو ما أعطاه فرصة لأن يبحث عن عمل في أثناء إقامته بأحد بيوت الاستقبال التي توفرها السلطات. عمل ميمو في سوق الفواكه والخضراوات في المدينة بشكل غير نظامي قبل أن يهرب بعد أشهر إثر علمه بقرار رفض لجوئه، ومعرفته نيّة السلطات ترحيله مرة أخرى، ولينتهي به المطاف في خيمة على الأسفلت بالقرب من محطة القطارات في روما.

روما لا تطيقهم ولا تقدر على إبعادهم


عندما يصل المهاجرون إلى إيطاليا عبر البحر، لا يكون أمامهم الكثير من الخيارات لما سوف يحدث بعد ذلك. الإيطاليون يحاولون تنظيم الأمر قدر استطاعتهم، فإيطاليا هي بوابة أوروبا، وفي الوقت الذي تستقبل فيه بقية دول أوروبا لاجئين أكثر تعليماً، وربما أكثر ثراء، هاربين من الحرب في بلدانهم، تستقبل إيطاليا، في الغالب، لاجئين ذوي قدرات علمية ومهنية محدودة، هربوا من سوء الأوضاع الاقتصادية.

في البداية، يتم استقبال جميع المهاجرين في مراكز تسمى مراكز الإسعافات والمساعدة الأولية. وغالبا ما تقع هذه المراكز في مناطق استقبال المهاجرين، أو ما يُعرف بالـhot spots. وفي هذه المراكز، يتم التعامل مع المهاجرين القادمين لتصنيفهم، وتحديد مَن منهم تنطبق عليه شروط اللجوء، قبل أن يتم نقل جميعهم إلى مراكز أخرى.

ويكون تصنيف القادمين الجدد بمعرفة لجنة تتكون من 4 أشخاص، اثنين منهم من وزارة الداخلية، وممثل للإدارة المدنية المحلية، وممثل للمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة. ولكي يتم التوصل إلى قرار بشأن طالب اللجوء، يجب أن يجري أفراد اللجنة مقابلة شخصية مع المتقدم، والتي يجب أن يمرَّر قرارها بأغلبية 3 أشخاص.

يتفق المهاجرون الذين تحدثنا إليهم في أن هذه المرحلة هي أصعب المراحل على المهاجر الجديد؛ إذ إن أمام طالب اللجوء 5 احتمالات يغلفها الانتظار؛ الأول هو أن يحصل على صفة اللجوء، ومن ثمّ الحصول على تصريح بالإقامة لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد؛ أو أن يحصل على الحماية الثانوية، وهي حماية يحصل عليها من لا تنطبق عليهم صفة اللجوء، لكنهم معرَّضون لخطر داهم إذا عادوا لبلدانهم، وفيها يمكن لطالب اللجوء الحصول على تصريح بالإقامة يصل لـ5 سنوات قابلة للتجديد أيضاً. وعادة يصعب على القادمين من إفريقيا، بمن في ذلك القادمون من مصر أو تونس، الحصول على صفة اللجوء أو الحماية الثانوية.

ويمكن للجنة أيضاً، إعطاء صفة اللجوء الإنساني لطالب اللجوء، وعادة ما يتم منحها لصغار السن أو المرضى والمهاجرين لأسباب مقْنعة للجنة، ويتم منح إقامة لمدة سنتين لمن يحظون بهذه الصفة، وهو ما يحدث مع غالب المهاجرين المصريين والتونسيين وغيرهم من دول إفريقيا.

ويحق للجنة التقييم رفض طلب اللجوء، سواء بشكل كامل إذا وجد أعضاؤها أن المتقدم لا يستحق اللجوء بأي شكل لأسباب، منها أن يشكل خطراً على الأمن، وكذلك يمكن للجنة رفض اللجوء بما يسمح للمهاجر بأن يتقدم بطلب استئناف لتقييم حالته من جديد، وهو ما يعطي للمتقدم فرصة أخرى.



وعلى الرغم من أنه على اللجنة أن تقوم بالتقييم اللازم خلال أيام، فإن القوانين تسمح لها بمدّ هذه المدة لأشهر؛ بسبب الأعداد الهائلة من المهاجرين، والذين وصلوا إلى 25 ألف شخص شهرياً كما حدث في منتصف عام 2016.

يُرفض طلب لجوئهم، لكنهم لا يعودون:


وإذا ما تم رفض طلب اللجوء بشكل كامل بعد الاستئناف، لا يتم القبض على طالب اللجوء، ولكن يتم إعطاؤه قرار رفض لجوئه مختوماً، وإخباره بأن عليه مغادرة البلاد خلال شهر واحد، وبعد هذه الفترة، يصبح المهاجر مقيماً بشكل غير شرعي في البلاد، وهذا ما حدث مع "ميمو".

لكن ميمو كغيره من المهاجرين لن يعود بسهولة؛ لذلك يقرر الانتقال من صقلية إلى روما أو إلى ميلانو في الشمال؛ كي يتسنى له البقاء بإيطاليا مثله في ذلك مثل عشرات الآلاف من المصريين الذين يقيمون بالبلاد انتظاراً، ربما، لقرار سياسي، مثل الذي سمح لنظرائهم قبل أكثر من 10 سنوات بأن يصححوا أوضاعهم والإقامة بشكل شرعي في البلاد.

بعد خروجه من صقلية، يعرف ميمو بوجود منظمة تساعد المهاجرين الذين تم رفض لجوئهم، وهي منظمة "تجربة باوباب" Baobab Experience التي تستضيف اللاجئين غير المصرح لهم بالإقامة في إيطاليا رغم اعتراضات الشرطة الإيطالية المتكررة.

تقول ميريام، المتطوعة الفرنسية التي تدير المخيم الذي يقيم به ميمو، إن المنظمة كانت تستضيف اللاجئين بمبنى في روما، قبل أن تأتي الشرطة في ديسمبر/كانون الأول 2015 لتلقي بالمهاجرين خارجاً وتغلق المبنى، لم تعتقل الشرطة المهاجرين ولا المنظمين، لكنها فقط لم تُرد وجود المهاجرين في هذا المكان، انتقل المتطوعون والمهاجرون إلى مكان آخر، لتأتي الشرطة في سبتمبر/أيلول 2016 ولتغلق المكان أيضاً. انتهى المطاف بـ"تجربة باوباب" في أرض الملعب المهجور، وهم ينتظرون الشرطة ليهجموا مرة أخرى في أي وقت.

تهاجم السلطات الإيطالية تجمعات إقامة المهاجرين. في أغسطس/آب، قررت السلطات إخلاء مبنى مهجور يقطنه لاجئون معظمهم من إريتريا. عندما زرنا موقع البناية على بُعد أمتار من محطة القطارات الرئيسية في روما، كانت الشرطة تطوقها، وبعض المهاجرين لا يزالون يحومون بالقرب منها.


يضم مخيم باوباب عشرات المهاجرين، هناك بعض الأنشطة التي ينسقها لهم المتطوعون، يشاهدون السينما مرة في الأسبوع على الأقل، ينظمون لهم جلسات مع أطباء نفسيين، ويوفرون لهم محامين لبحث قضاياهم ومتابعة ملفات لجوئهم. لا يهتم متطوعو باوباب بخلفيات القادمين. أحدث قادم إلى المخيم كان "عم وهبة" المصري الستيني الذي وصل إلى روما قبل يومين فحسب.

سُجن عم وهبة في صقلية أكثر من 3 سنوات بعد أن اتهمته السلطات بقيادة أحد قوارب تهريب المهاجرين من ليبيا، ينفي "عم وهبة" التهمة بحدة ويزعم أن عدداً من ركاب القارب اتفقوا على الإيقاع به. حوكم الرجل، وحُكم عليه بالسجن 7 سنوات، قبل أن يُفرج عنه بعد قضائه نصف المدة. ذهب "عم وهبة" إلى المركز الإسلامي في مدينة ميسينا، والذي اشترى له تذكرة حافلة إلى روما، ليأتي وينضم إلى قاطني باوباب. يريد "عم وهبة" أن يعود إلى مصر بأسرع وقت، يحاول التواصل مع السفارة التي ستقوم بترحيله إلى القاهرة.

قبل أسابيع، انضم "عليّ" إلى المقيمين في باوباب، وهو مواطن عراقي تجاوز عمره الأربعين بقليل، جاء مرحَّلاً من النرويج، التي قبضت عليه السلطات فيها بعد إقامته هناك أكثر من 10 سنوات بشكل غير قانوني. يطلق العاملون في المجال على أمثال "عليّ" لقب "Dublinati-دُبليناتي"، ويُقصد به الذين تم ترحيلهم إلى إيطاليا بموجب اتفاقية دبلن التي تعطي الحق لدول الاتحاد الأوروبي بترحيل أي شخص يقيم بشكل غير قانوني إلى أول دولة أوروبية وطئتها قدماه، بالنسبة لـ"عليّ" ومئات آلاف آخرين، هذه الدولة هي إيطاليا.

يريد "عليّ" العودة إلى النرويج، وسيفعل كل ما بوسعه لإتمام ذلك.

خلافاً لـ"عليّ" و"ميمو" و"عم وهبة"، هناك آخرون أكثر حظاً، قبلت اللجان المعنية طلبات لجوئهم، وهم في الغالب من الأفارقة، الذين جاء 90٪ منهم على الأقل بقوارب أبحرت من سواحل ليبيا.

ما الذي ينتظر المهاجر على الجانب الآخر من البحر؟


يمر اللاجئ بعدة مراحل قبل إصدار قرار اللجان النهائي بشأن لجوئه في أوروبا، بداية يتم نقل المهاجرين إلى مراكز استقبال جماعية أو مراكز تم إنشاؤها بقرارات وزارية خاصة. ومع تزايد أعداد القادمين من المهاجرين، تكتظ مراكز الاستقبال الأولية بأعداد أكثر مما تحتمله، فمثلاً يضم مركز "مينيو-Mineo" بمدينة كاتانيا الصقلية، أكثر من 3650 شخصاً، في حين أنه مخصص لاستيعاب 3000 شخص في حده الأقصى، ومركز غوريزيا، بالقرب من الحدود مع سلوفينيا، يضم 516 شخصاً، في حين أن سعته القصوى تبلغ 138 شخصاً.


ويظل هدف السلطات الإيطالية هو نقل أكبر عدد ممكن من المهاجرين في مراكز الاستقبال الأولى، إلى المرحلة الثانية من مراكز الاستقبال، وهي مراكز تتبع الإدارات المحلية، وفق نظام مميز يُدعى "سبرار- SPRAR".

و"سبرار"، هو نظام يُدخل اللاجئين في مجموعات صغيرة ليقيموا بمنازل أو مبانٍ بإشراف الإدارات المحلية، ومنظمات المجتمع المدني والكنائس، حيث يمكنهم خلال فترة إقامتهم تعلّم اللغة الإيطالية، والتجهز لمقابلة لجنة التقييم التي ستبتّ نهائياً في قرار لجوئهم، حيث يدخل عدد كبير من اللاجئين الذين تم رفض قبولهم إلى هذه المراكز في انتظار معرفة قرار الاستئناف، وفي حال قبولهم، تساعدهم إدارة المركز أخيراً في البحث عن عمل لدمجهم في المجتمع الإيطالي.

يقول فرانشيسكو سيسيو، وهو مدير لأحد المراكز التقيناه بمكتبه في روما، إن مسؤوليته تبدأ منذ لحظة استقبال اللاجئ، حيث يقوم بعرضه على طبيب ومعالج نفسي، ومحامٍ ووسيط ثقافي للتواصل معه وإعداده للقاء لجنة التقييم، ثم إعداد سيرة ذاتية لكل لاجئ؛ كي يمكنه البحث عن عمل ملائم.

يعتمد نظام SPRAR بالأساس على الإدارات المحلية في المدن الإيطالية المختلفة؛ إذ تتقدم البلديات إلى الحكومة المركزية بطلبات استقبال للاجئين، حيث توفر لهم منازل أو مباني خاصة بهم، ويوفر نظام سبرار لهذه المراكز الإدارة المناسبة ويخصص للمدينة عدداً من اللاجئين الجدد، بالإضافة إلى ضخّ حوافز مالية وتسهيلات ضريبية للبلديات التي تقرر استضافة المهاجرين.

بحسب كارلوتا سامي، المتحدثة الرسمية باسم المفوضية العليا للاجئين في روما، "هناك أكثر من 170 ألف شخص يقيمون حالياً في مراكز الاستقبال الإيطالية"، وهو عدد أدى إلى استياء أعداد متزايدة من الإيطاليين، الذين قرر كثير منهم، في المقابل، انتخاب أحزاب يمينية أو متطرفة رافضة للمهاجرين.

أحد الأحزاب الجديدة الصاعدة على الساحة الإيطالية، هو حزب حركة الخمس نجوم. استطاع الحزب تحقيق نجاحات متتالية، "بطيئة لكن لا يمكن إيقافها" كما كتب بيبي غريلو، مؤسس الحركة، حيث استطاع الحزب التغلب على أحزاب إيطاليا التقليدية والفوز بانتخابات العمدة في اثنتين من كبرى المدن الإيطالية، العاصمة روما، وتورينو.

وعلى الرغم من عدم هيمنة الحزب على مقاعد البلديات في الكثير من المدن الإيطالية، فإن خطابه الرافض للمهاجرين بشكل كبير أثّر على الناخبين الإيطاليين، الذين طالبوا الأحزاب الأكثر اعتدالاً بتبني مواقف أكثر حدة تجاه اللاجئين. نظام سبرار مثلاً، تضرر كثيراً من هذا الخطاب، فالنظام الذي يعتمد على مبادرات البلديات والإدارات المحلية، لم يعد يستقبل تلك المبادرات. يقول فرانشيسكو إن البلديات التي تعرض مباني بها أو منازل لاستقبال اللاجئين -وفق نظام سبرار- تقلّ مع الوقت، حيث يخشى السياسيون في تلك البلديات غضب الناخبين الذين لم يعودوا راغبين في استقبال المزيد من المهاجرين، والذين لن يستمروا في انتخابهم إذا ما عرضوا موارد بلدياتهم لاستقبال اللاجئين.

إيطاليا لا تريدنا، ولا نريدها نحن أيضًا:


وكما ترفض بلديات إيطالية استقبال المهاجرين، يرفض بعض المهاجرين البقاء في إيطاليا، "عليّ"، العراقي الذي يود العودة إلى النرويج، ليس استثناء. تحدث عمر عن رغبته في الرحيل من إيطاليا إلى ألمانيا بأسرع وقت، ومثله يفصح عدد كبير من المهاجرين عن رغبتهم في الانتقال نحو شمال أوروبا باستمرار. أخبرتني "ماري باسي"، وهي باحثة فرنسية مختصة بقضايا الهجرة، عن المهاجرين الذين يقررون خوض رحلة شاقة بطريق البر عبر طرق حدودية وعرة من إيطاليا إلى موطنها فرنسا.

بدر الدين، لاجئ سوداني قامت ماري بتهريبه مع عدد من أصدقائها النشطاء إلى فرنسا. استطاع بدر الدين، البالغ من العمر 24 سنة، أن يستقر في باريس، وأن يتعلم الفرنسية بمساعدة ماري ونشطاء فرنسيين آخرين بمنطقة ستالينغراد الباريسية.

تقدم بدر الدين بطلب لجوء في فرنسا، غير أنه رُفض من قِبل السلطات، التي أعطته مهلة للعودة إلى إيطاليا، لكن إلغاء الطائرة التي من المفترض أن تقله إلى روما أعطاه مبرراً أمام السلطات كي تعيد النظر في ملفه من جديد.

هناك العديد من النشطاء الإيطاليين والفرنسيين على جانبي الحدود ممن يقومون بمساعدة اللاجئين والمهاجرين، يؤمن هؤلاء بأن الحدود اختراع لا طائل من ورائه، ويعتقدون أن عليهم إيقاف صعود اليمين ومنع الحكومات من التحكم في حركة البشر، وهم يفعلون ذلك قدر استطاعتهم، في مسارات صعبة، أحدها من خلال عبور وادي رويا vallée de la Roya، وهو منطقة بديعة الجمال، لكنها شديدة الوعورة يتخذ اللاجئون منها طريقاً إلى الأراضي الفرنسية.


من جانبها، لا تقف السلطات مكتوفة الأيدي أمام نشاط هؤلاء المثقفين. فمثلاً في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، قضت محكمة بمدينة نيس الفرنسية بسجن الباحث والناشط بيير آلان مانوني Pierre – Alain Mannoni شهرين. بيير أكاديمي يدرس الطبيعة، وهو أحد أصدقاء ماري، أوقفته السلطات بعد أن استضاف في منزله بالقرب من الحدود لاجئين "خائفين ومرضى يكادون يموتون من البرد"، بحسب قوله، قبل أن تقرر المحكمة سجنه بتهمة تهريب اللاجئين عبر الحدود الإيطالية إلى فرنسا.

إيطاليا ليست المدخل الوحيد إلى أوروبا، ففي النهاية استقبلت البلاد 10٪ فقط من طلبات اللجوء إلى أوروبا حتى الآن، إذن.. إلى أين يذهب البقية؟

ألمانيا .. "الفراو" التي لا يُظلم عندها أحد


عندما غادر "عبد الله" بلدته في ريف إدلب بسوريا منتصف عام 2011، لم يكن ينوي الهجرة إلى أوروبا، لكن بعد 3 أشهر قضاها في لبنان، وقرابة العامين بتركيا والكثير من قصص أصدقائه الذين وصلوا بسلام إلى ألمانيا- أدرك أن عليه خوض الرحلة.


في عام 2015، وقبل الاتفاق التركي-الأوروبي، الذي يقضي بإعادة المهاجرين الجدد من اليونان إلى تركيا، كان الأمر أسهل. طريق عبد الله -على صعوبته- كان واضحاً. تحرك الرجل الأربعيني، مع عدد آخر من الشباب وسيدتين، بقارب من إزمير التركية إلى إحدى جزر اليونان غير المأهولة، أعطتهم السلطات أمراً بالطرد من البلاد، ووصلوا بالباخرة إلى أثينا، وهناك بدأت الرحلة الحقيقية.

يحكي عبد الله عن انتقاله هو ومجموعته بسيارة إلى الحدود اليونانية مع مقدونيا، وخوضهم رحلة طويلة سيراً على الأقدام عبر مقدونيا وصربيا، وتوقفهم أياماً في غابة على الحدود الصربية مع هنغاريا أو المجر، ووحشية الشرطة الصربية التي اعتقلت أعداداً كبيرة من اللاجئين هناك. "كان المشهد في الغابة غريباً، عشرات الآلاف من قطع الملابس الملقاة على الأرض" يفسر عبد الله ذلك بقوله: "لأن المهاجرين الذين ساروا أياماً يريدون أن يدخلوا المجر بملابس نظيفة حملوها معهم كل تلك المسافة؛ كي لا يثيروا انتباه الشرطة بسوء هندامهم ورائحة الطريق".

استطاع عبد الله ورفيق له الهرب إلى المجر والوصول إلى مدينة "Szeged-سيغيد، قبل أن تقبض عليهم الشرطة المجرية في أثناء انتظارهم حافلة تقلهم إلى الحدود النمساوية.

بعد القبض عليهما، اضطر عبد الله إلى تسليم بصماته في المجر، على أمل أن يفلت من اتفاقية دبلن بعد وصوله إلى ألمانيا كالكثير من السوريين. أُخلي سبيله فوراً، لينطلق إلى النمسا، ومنها إلى مدينة باساو التابعة لميونيخ الألمانية، ثم إلى فرانكفورت، قبل أن يسلم نفسه للسلطات في مدينة هامبورغ.

يختلف نظام اللجوء في ألمانيا بعض الشيء عن النظام الإيطالي. يمكن لطالبي اللجوء أن يحصلوا على تصاريح بالإقامة تصل مدتها لـ3 سنوات قابلة للتجديد، كما يمكن لهم أن يستقدموا أفراد عائلاتهم، أو أن يحصلوا على تصريح بالإقامة سنة واحدة، وفي هذه الحالة لا يحق لهم استقدام أسرهم أو عائلاتهم.



يقول المهاجرون الذين تحدثنا إليهم في ألمانيا، إن طالبي اللجوء لم يعودوا يحصلون على إقامات لـ3 سنوات إلا فيما ندر؛ ومن ثم لم يعد بإمكان القادمين الجدد أن يرسلوا في طلب عائلاتهم.

لكن عبد الله الذي وصل إلى مبتغاه في أغسطس/آب 2015، بمدينة ماغديبورغ الصغيرة والهادئة التي تبعد ساعتين عن العاصمة برلين، كان أكثر حظاً؛ إذ وافق الألمان على طلب لجوئه على الرغم من حصول المجريين على بصمته، وأعطوه إقامة لـ3 سنوات. استطاع بموجبها أن يستقدم أسرته المكونة من زوجته وابنه وابنته من لبنان، لكن الأمر استغرق وقتاً طويلاً. انتظرت عائلته عاماً كاملاً قبل حصولهم على موعد بالسفارة الألمانية في بيروت لتقديم أوراق لجوئهم، و"بسبب موظفين مرتشين"، يدّعي عبد الله، "تأخر قبول الأوراق 6 أشهر"، لينتظر عامين. عندما التقينا عبد الله في ماغديبورغ نهاية سبتمبر/أيلول 2017، كانت عائلته قد وصلت للتو إلى ألمانيا.


لا يعمل عبد الله حتى الآن، وهو يستعد لسوق العمل الألمانية بتعلّم اللغة، وببناء علاقات شخصية تؤهله للاندماج في المجتمع الألماني، الذي لا يعتقد أنه يحتاج أكثر من أن يكون المهاجر مستعداً للانخراط مدنياً، "أي أن تعمل، وأن تدفع الضرائب، لا شيء آخر".

لا يتابع عبد الله السياسة الألمانية بدقة شديدة، تضايقه ملصقات حزب البديل من أجل ألمانيا، وهو حزب يميني فاز بـ13.3٪ من مقاعد البرلمان الألماني بالانتخابات التي عُقدت في سبتمبر/أيلول الماضي، ولكنه يحترم المستشارة الألمانية إلى حد بعيد، ولا يذكر اسمها إلا ويسبقه بلقب السيدة بالألمانية "فراو".

لكن الكثير من السوريين الذين يصلون إلى ألمانيا لا يتفقون مع عبد الله، ولا تتطابق قصصهم بالضرورة مع قصته. أحمد الشامي، وهو اسم مستعار لشاب في الـ28 من عمره، لا يبعد كثيراً منزله عن منزل عبد الله في ماغديبورغ، إلا أن قصته تسلط الضوء على جانب آخر من جوانب حياة المهاجرين في ألمانيا.

غادر الشامي قريته في ريف حلب إلى تركيا مع أخيه وأخته، قبل أن يكملوا رحلتهم براً، وسيراً على الأقدام إلى بلغاريا. اعتُقل سريعاً في بلغاريا، لم يستطع إكمال الطريق، وقُبض عليهم جميعاً ليقضوا أشهرًا في السجن، قبل أن يُفرج عنهم بعد موافقة الشامي على إعطاء بصماته في بلغاريا عقب تهديده بفصله عن عائلته إذا استمر في رفضه.

أكمل الشامي طريقه إلى ألمانيا بعد ذلك، ليسلم نفسه لسلطات مدينة بيليفيلد التي لا تبعد كثيراً عن الحدود الألمانية مع بلجيكا وهولندا.

حاول الشامي منذ منتصف 2015، الحصول على موافقة باللجوء في ألمانيا، إلا أن السلطات استخدمت سيف "دبلن" هذه المرة، رفضت السلطات طلبات الشاب، على الرغم من قبول طلبَي لجوء أخيه الأصغر وأخته الكبرى، لكن ما فعله الشاب، بعد حصوله على قرار ترحيله، من أجل البقاء في ألمانيا، كان استثنائياً.

يعطي القانون الألماني للمتزوجين بألمانيات الحق في الإقامة بألمانيا، وكذلك يعطي الحق للآباء الذين أنجبوا من علاقات مع ألمانيات، وهذا تحديداً ما فعله الشامي.

كان الشامي قد انخرط في علاقة عاطفية مع فتاة ألمانية ساعدته في مرحلة مبكرة بعد وصوله هناك وقبيل ترحيله بفترة وجيزة، علم الشريكان أنهما على وشك أن يُرزقا بمولود. يُصر الشامي على أن مجيء طفله كان بلا تخطيط مسبق منه، لكنه الآن مَدين لهذا الطفل بمستقبله في ألمانيا.

يعمل الشامي الآن مع منظمة ألمانية تعنى بالأطفال المعنّفين، سواء من اللاجئين أو من الألمان، لكنه يؤكد أن لديه العديد من الأسئلة العالقة حول هويته وما يجب عليه أن يتمسك به من تقاليده الشرقية وما يمكنه أن يتخلى عنه. أما الجدال الأكبر، يقول الشامي، فهو "النقاش مع شريكتي حول تربية الطفل في ألمانيا، والأخطر هو السؤال الافتراضي عن طريقة التربية إذا ما رُزقنا بفتاة". لا يعلم الشامي إجابات أسئلته، لكنه يؤكد أنه لن يعود إلى سوريا حتى بعد انتهاء الحرب؛ "لن أستطيع ترك ابني، ربما لو كنت أعزب لفعلت، لكن الآن، لا!".

الشوارع تلفظ المهاجرين، وأقبية الكنائس تنتظرهم:


ما فعله الشامي، سواء بقصد أو بغير قصد، من أجل البقاء في ألمانيا، لا يُعد الأكثر تطرفاً في هذا الإطار. تؤكد شوشانا فاين، وهي باحثة فرنسية تقيم في باريس، أنها التقت عشرات اللاجئين الذين ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك من أجل الحصول على اللجوء بأوروبا في أثناء عملها على رسالتها للدكتوراه. في رسالتها، خصصت فصلاً كاملاً عن طالبي اللجوء الذين يتحولون إلى المسيحية، أو يعلنون إلحادهم، حتى لو لم يكن ذلك نتيجة جهد فكريّ حقيقيّ، لإقناع الجهات المعنية بخطر عودتهم إلى بلدانهم الأصلية.

ويظهر هذا المنحى بشكل واضح بين اللاجئين القادمين من أفغانستان وإيران؛ إذ شهدت هولندا خلال الأشهر الأخيرة تحوّل الآلاف من اللاجئين الإيرانيين المسلمين إلى المسيحية؛ لرفع فرصهم في الحصول على اللجوء.

لا يمكن تعميم مثل هذا التوجه بين اللاجئين. يقول محمد سلامة إبراهيم، الذي يدير المركز الإسلامي بمدينة فولسبورغ الصناعية غرب برلين، إن المركز الإسلامي، أو المسجد، يمثل قِبلة للمسلمين بمدينته، وعادة ما يتعاون المركز مع السلطات المحلية في مساعدة تسجيل اللاجئين، والترجمة، وفي بعض الحالات توفير مساعدة قانونية للمهاجرين.

يدلل إبراهيم على كلامه، مشيراً إلى الموجودين بالمسجد، الذي بُني بتمويل إماراتي، في وقت صلاة الظهر، ويقول إن 30٪ تقريباً من بين العشرات الموجودين هم من المهاجرين الجدد، وهي النسبة التي تتضاعف في أيام الجُمَع والمناسبات.


لكن المساجد، على مركزيتها بالنسبة للمهاجرين المسلمين، لا تتمتع بالصلاحيات نفسها التي تتوافر للكنائس في ألمانيا، حيث توفر كنائس البلاد بديلاً لهؤلاء الذين تم رفض طلب لجوئهم، خاصة على خلفية اتفاقية دبلن.

لا يمنع القانون الألماني الكنائس من استضافة اللاجئين، باعتبار أنها أماكن معلومة العنوان، ويعتبرها عدد كبير من اللاجئين ملاذهم الأخير لتجنب الترحيل، حيث يُحظر على الشرطة أن تدخل إلى الكنيسة، وهو ما يسمح للاجئ بالبقاء فيها أطول فترة ممكنة، ولا تعتبره الشرطة خلال هذه الفترة هارباً؛ لأن لديه عنواناً معروفاً مسجلاً لدى السلطات، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع الدخول إلى الكنيسة واعتقاله أو ترحيله. وبعد 6 أشهر من الإقامة داخل مبنى الكنيسة، يسمح القانون الألماني لطالب اللجوء بأن يكرر طلبه من جديد، ويتم التغاضي في هذه الحالة عن شروط "دبلن". لكن الكثيرين ممن يخوضون هذه التجربة يقررون التحول عن دينهم واعتناق المسيحية، خاصة أن هذا يضمن لهم استمرار الدعم الكنسي والمساعدة المقدمة لهم.

وبحسب بعض النشطاء الألمان، فإن هذا النوع من اللجوء الكنسي توفره أيضاً بعض المعابد اليهودية.

يحاول الجميع الإقامة في ألمانيا إذن، ويفعلون ما بوسعهم لتجنب الترحيل، فخلال النصف الأول من 2017، تم رفض لجوء 29.507 أشخاص، لكن من تم ترحيلهم خلال المدة نفسها لم يتعدّ 3.085 شخصاً. لكن، ما الذي تفعله كل هذه الأعداد من المهاجرين الجدد؟

شارع العرب.. بيروت الصغيرة.. وقطاع غزة


كيف يمكنك أن تسافر من محطة قطارات برلين إلى سوريا بأقل من 3 يوروات؟ اركب المترو إلى ميدان هيرمانبلاتز، وتوجه إلى شارع الشمس!

يغير السوريون خارطة برلين، لن يسعك التوقف عن التفكير في هذه الفكرة بمجرد الدخول إلى الشارع جنوب المدينة.

"شارع الشمس-Sonnenallee"، الذي أطلق عليه الألمان في السابق ألقاباً مثل بيروت الصغيرة، أو قطاع غزة، يطلق عليه الآن شارع العرب. اللافتات العربية وأسماء المحال ولهجات المتحاورين على المقاعد الخشبية بالشارع، وصوت أم كلثوم الذي يصدح في الخلفية، كلها لا تشير أبداً إلى أن هذا الشارع يقع في العاصمة الألمانية.



استطاع السوريون بالفعل أن يؤسسوا مجتمعهم الخاص. إعلانات لأطباء ومحامين بالعربية، مطاعم تقدم المطبخ الشامي، وحلاقون عرب، تحف عربية وأعلام عربية، وأغانٍ عربية. لا يقطن السوريون وحدهم في الشارع بالطبع، فالفلسطينيون واللبنانيون والعراقيون كانوا هنا أولاً، لكن الطابع السوري لا تخطئه العين.

كان الشارع الذي يمتد لـ5 في السابق مقسوماً بجدار برلين، وكذلك كان به نقطة عبور لسكان المدينة في أثناء الحرب الباردة، لكن "90٪ من محاله الآن يديرها العرب"، كما تؤكد فرانزيسكا غيفي، عمدة منطقة نيوكولن التي يقع بها الشارع.

لكن الأمر ليس إيجابياً بهذا الشكل بالنسبة لكثير من الألمان. يقول ماركو، وهو مواطن ألماني يمتلك محلاً للمشغولات الذهبية في شارع الشمس: "الألمان يشعرون بالضياع هنا! كل شيء بالعربية"، ويتابع بأسى: "سكان المنطقة يستغربون حيّهم ويتساءلون: كيف انتهى بهم المطاف هنا في دمشق أو بغداد؟!".

ما يراه ماركو يراه الكثير من الألمان، وهذا ما ظهر بوضوح في نتائج الانتخابات الأخيرة. فلأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، ينجح حزب متطرف في الدخول إلى البرلمان.

والأخطر، هو أن نجاح الحزب جاء بسبب برنامجه الرافض للمهاجرين، والداعي للعودة إلى "النقاء الألماني"، وهو خطاب يتطابق في الكثير من أوجهه مع خطاب الرايخ الثالث.

خالد العبود، صحفي سوري جاء إلى ألمانيا قبل سنوات، يعمل الآن في موقع "أمل برلين"، الذي يعتمد أساساً على كُتاب عرب ومهاجرين- يقول إنه لا يرى جدوى من جهود الاندماج التي تتم مع القادمين الجدد؛ بل يراها مهينة إلى حد بعيد، "إنهم يريدون تعليمنا كيف نأكل، وكيف نستخدم المرحاض!"، يقول خالد بغضب.

تتفق لورا، وهي ناشطة ألمانية وباحثة، مع خالد، وتقول إن الاندماج من شأنه أن يقوض التنوع، وهو ما يناقض هدف الهجرة بالأساس. تتابع لورا بقلق: "صعود حزب البديل إلى البرلمان بنسبة 13٪ مرعب ومحبط في آن واحد".

لكن العبود ليس قلقاً إلى هذا الحد، يضحك قائلاً: "سيذهب الألماني الذي ينتخب حزب البديل إلى صندوق الاقتراع وهو يسبّ الأجانب والمهاجرين، ثم يعود إلى منزله ليتناول وجبته المفضلة: الشاورما التركية"!


This production was supported by OPEN Media Hub with funds provided by the European Union
هذا الإنتاج حصل على دعم المركز الإعلامي المفتوح بتمويل من الاتحاد الأوروبي

تحميل المزيد