الفقه في زمن “سايكس بيكو”

واحذرهم يا أخي أن يفتنوك عن بعض ما فطرك الله عليه، ولا تتبع خطاهم إلى دغل الفقه الذي لا يخرج منه أحد، فوالله لو اهتديت فيه لألف طريقٍ، لانبرى لكل طريق ألف دَعِىّ يجادلك فيه ويخذلك عنه، وبالقرآن والسنة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/03 الساعة 08:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/03 الساعة 08:31 بتوقيت غرينتش

واحذرهم يا أخي أن يفتنوك عن بعض ما فطرك الله عليه، ولا تتبع خطاهم إلى دغل الفقه الذي لا يخرج منه أحد، فوالله لو اهتديت فيه لألف طريقٍ، لانبرى لكل طريق ألف دَعِىّ يجادلك فيه ويخذلك عنه، وبالقرآن والسنة.

على مدار قرون متصلة اجتهد الفقهاء والأئمة في أمور الفقه الإسلامى بنواحيه المختلفة من عبادات إلى معاملات، من حاكم إلى محكوم، من سلم إلى حرب، فأنتجوا لنا تراثاً فقهياً عريضاً وسع الأمة الإسلامية في عصورها المختلفة.

ولكن هل يعد هذا الفقه صالحاً للاستخدام الآن؟

منذ بدء الدولة الإسلامية في فترة الخلافة الراشدة وحتى نهاية الخلافة العثمانية، مروراً بكل الخلافات والحكومات والممالك التي شهدها العالم الإسلامي على اتساع رقعته الجغرافيه وامتداده الزمني الكبير، شهد المجتمع الإسلامي تغيرات واسعة متباينة، ولاحق الفقهاء هذه المتغيرات باجتهاداتهم الفقهية، فما تركوا شيئاً حتى فصَّلوه، ولا مستجداً إلا درسوه وأصَّلوه، فظل الإسلام بحق دستور الأمة الحي ومنهاجها الواضح الصريح.

ولكن على الرغم من تباينات المذاهب والآراء الفقهية تلك واتساعها الواضح فإننا نستطيع أن نجمعها في سلة واحدة، وهي سلة التمكين، فهل يصلح فقه التمكين لزمن الاستضعاف؟

والمتتبع لتاريخ الدولة الإسلامية منذ قيامها وحتى انتهاء الخلافة يلحظ بوضوح أنها كانت دولة تمكين، وأنها حتى في أشد عصورها ضعفاً وانحلالاً وتمزقاً كان الإسلام وحاكميته وعباداته ومعاملاته من المسلَّمات التي لم تمس، وبالتالي فإن كل المذاهب والاجتهادات الفقهية – رغم تباينها واختلافها الشديد – خرجت كلها من رحم التمكين لتخاطب أفراداً يعيشون في دولة التمكين بكل مفرداتها، حتى وإن اعترى تلك المفردات ضعف وعوار.

كان فقه الفقهاء ينبني على وجود حاكم مسلم، وقاضٍ مسلم، وديانة مقدسة، وشريعة مفعلة، وحقوق محفوظة، وثوابت راسخة يتبدل الكل حولها ولا تتبدل.
وحتى في المِحَن الكبيرة التي سجلها التاريخ لم تخرج الدولة ولا الفقهاء ولا المذاهب عن هذا السياق على الإطلاق.

فمثلاً محنة الإمام أبي حنيفة التي ثبت فيها حتى الموت، لم تعْدُ كونها خلافاً بينه وبين الخليفة لرفض الإمام تولي منصب القضاء وإصرار الخليفة على توليته إياه، ذلك الخلاف الذي رآه الخليفة سياسياً يتحدى سلطاته ورآه الإمام فقهياً يقتضي الثبات حفظاً لمنصب القضاء.

ولم تكن محنة الإمام أحمد بن حنبل إلا خلافاً بينه وبين الخلفاء في مسألة خلق القرآن، ذلك الخلاف الذي رآه الخلفاء سياسياً فكرياً يتحدى السلطة والتنوير ورآه الإمام فقهياً عقدياً يقتضي الثبات حفظاً لثوابت الدين.

وفي كلتا المحنتين لم يزد العذاب عن كونه سجناً وجلداً (وما أفظعه) ولم يزد الثبات عن كونه صبراً (وما أعظمه).

لم يتعرض الإمامان ولا غيرهما للمطاردة مثلاً بسبب الحرص على صلاة الفجر جماعة، ولا الاعتكاف في العشر الأواخر، أو الجلوس في المسجد قليلاً بعد الصلاة، لم يعتقلا بسبب إطلاق اللحية أو ارتداء الساعة في اليد اليمنى بدلاً من اليسرى، لم يطلق النار عليهما؛ لأنها يهتفان في الشارع تضامناً مع طائفة من المسلمين يقتلون في بلد ما أو مطالبين بفك حصار عن طائفة أخرى، لم يصنفا إرهابيين لأنهما يطالبان بتحكيم الشريعة (على كل ما لنا فى تلك الكلمة من مآخذ).

وحتى عندما عُذبا، لم يتجاوز عذابهما الجلد كما ذكرنا (على فظاعته وقسوته)، لم يتعرض لهما أحد بالصفع والركل وحلق الشعر وسب الدين، لم ينتهك أحد عرضهما ليل نهار وهما مقيدان على مقعدٍ معدٌ خصيصاً لذلك، لم يتعرضا للصعق بالكهرباء، لم يؤت بزوجتيهما وتجردا من ملابسهما وتنتهكا أمامهما، لم يتحرش أحد ببناتهما فى الطرقات أو يغتصبهن فى غياهب السجن أو حتى داخل مدرعة فى الشارع! لم يضطر أحدهما إلى حلق لحيته ولم تضطر زوجته إلى خلع نقابها كى لا يفترسهما العامة فى الطرقات!

أنتج السابقون فقه التمكين؛ لأنهم عاشوا وماتوا فى زمن التمكين، ولو عاش أحدهم في زمننا (زمن الاستضعاف) لأنتج لنا فقهاً مغايراً تماماً ليس فقط في المعاملات وإنما قد يكون في العبادات أيضاً.

فعلينا أن نعي أن من يلزم نفسه بفقه التمكين في زمن الاستضعاف كمن يضع في يديه قيداً وفي عنقه طوقاً، وفي قدميه أثقالاً ثم يثب إلى ساحة المعركة ليقاتل

فإلى أن يمن الله علينا بفقهاء محدثين ينتجون كما أنتج الأولون، استفتِ قلبك واستشِر عقلك واسأل الله الرشاد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد