لعل أكثر ما يصيب القارئ بالدهشة والذهول عند قراءته رواية (غزة 87) التى صدرت مؤخراً للكاتب الفلسطيني يسري الغول، والتي أحدثت ضجة في أوساط المجتمع الفلسطيني، أنها أظهرت الجانب المظلم لقطاع غزة في حقبة من الزمن، تلك الفترة التي عمل بها آلاف العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر (الأراضي الفلسطينية المحتلة)، فلم تقتصر حياتهم على تحصيل قوت يومهم فقط، فما كان يواجه مسار حياتهم من خفايا وأسرار صادمة، والتي كشفت عنها الرواية، تضعناً في دائرة الشك، وتجعل العديد من التساؤلات تتبادر إلى أذهاننا، حول ما كان يحدث بالفعل مع العمال الفلسطينيين في تل أبيب، مدينة العيش الرغيد والسعادة الأبدية، كما وصفها الكاتب.
فلم تكتفِ المرأة اليهودية بإجهاد طاقاتهم لتنفيذ بعض الأعمال الشاقة، حيث كانت تسعى بتقديم مغرياتها للاستحواذ على الجسد العربي الفلسطيني.
فعندما تقرأ الرواية لن تنام ليلتك دون إكمالها بشغف؛ حيث تكشف عن أحداث جريئة لقصص شباب من المخيم، يقعون ضحايا للتحرش الجنسي من قِبل الإسرائيليات، ومن قَبل ذلك فهم ضحايا للحياة والواقع الذي دفع بهم للعمل رغم أنوفهم في هذه المدينة الشقية.
كما وصف الكاتب حياة الشباب الفلسطيني داخل أزقة المخيم، وما كان يعانيه من مخاوف وظلم وفقر في تلك الفترة العصيبة.
أحداث الرواية تجعلنا نظن للوهلة الأولى أن كل ما يجري هو حقائق مؤكدة، وقد حدثت بالفعل، دون الإفصاح عنها، فيما تدفع القارئ للقول بينه وبين نفسه، (ومن يدري؟ لعل ما خفي كان اعظم).
لكن ما نوه به الكاتب في بداية روايته: (أن غزة التي على الورق، ليست كتلك التي على الأرض، وكذلك المدن الأخرى وشخوص هذه الرواية، والأحداث والوقائع أيضاً. وأي تشابه يجمع ما على الورق ومن هم على الأرض؛ إنما هو مجرد صدفة ليس إلا)، ذلك التنويه يجعلنا نعود لأرض الواقع، لكنه لا يخفى على الجميع واقع قطاع غزة الصعب، فنحن لا نزال في صراع أزلي مع إسرائيل، والحكاية لم تنتهِ بعد، كما ختم الكاتب روايته، (فالأحداث والوقائع مستمرة بديمومة الحياة في المخيم. والمخيم بقعة مظلمة من البسيطة صبغت القلوب بالعتمة حتى صار الناس مريدين في حضرتها، يمارسون طقوساً لا يعرفها غيرهم، يحملون الحياة في قلوبهم المنطفئة ثم ينطلقون بها نحو الموت.
ورغم ما قيل في هذه الرواية، فقد فشلت جميع المحاولات الأخرى في استنطاق شخوص الرواية بالمزيد؛ لأن الوجع أكبر من أن تصفه الكلمات، ولأن الواقع أكثر سوداوية من أن ترسمه لوحة فنان أو رواية أديب.
الوجع الذي ظل مستمراً كسرطان أغرق غزة ببحر العتمة والخوف والموت على تخوم العروبة.
لم تنتهِ الحكاية بعد، لكن الذي انتهى هو حقبة سوداوية خسر فيها المواطن الفلسطيني نفسه، ليغرق في حقبة أخرى أشد ظلاماً وعتمة.
وغزة ما زالت مستمرة في الغرق، ورغم اشتعال شرارة الانتفاضة، فإن غزة ظلت تمارس رغباتها في وضح النهار).
وتعتبر رواية غزة 87 للكاتب يسري الغول، أحد أهم كُتاب القصة القصيرة في فلسطين، حاصل على ماجستير دراسات الشرق الأوسط من جامعة الأزهر بغزة، وصدر له العديد من الأعمال الأدبية أهمها: خمسون ليلة وليلى، والموتى يبعثون في غزة، وقبل الموت وبعد الجنون، وعلى موتها أغني، وترجمت له عدة قصص إلى اللغة الإنكليزية والإيطالية والتركية، ونشر فى العديد من الصحف والمجلات الدولية والعربية، وشارك في العديد من المؤتمرات والبرامج الدولية فيما يختص بمجال حقوق الإنسان والديمقراطية وتعدد الحوارات والثقافات، ومؤسس تجمع قرطبة الثقافي، أحد أهم الصروح الثقافية في قطاع غزة، ومؤسس محور غزة بتجمع المشّكلين الدوليين المنبثق عن منتدى الاقتصاد العالمي دافوس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.