أثار إعلان مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان الذي يحكم منذ فترةٍ طويلة، التنحي عن منصبه هذا الأسبوع، نزاعاً فصائلياً في البرلمان حول الكيفية التي يجب بها توزيع سلطاته الأمر الذي تسبَّب في زيادة حدة التوتُّرات في الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي.
وقالت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية إنَّ الخطوة تُمثِّل آخر تداعيات استفتاء الاستقلال الذي يراه الكثيرون من قادة كردستان العراق الآن خطأً كارثياً سيُكلِّفهم اعتمادهم على الذات اقتصادياً وسياسياً.
وقال البارزاني في رسالةٍ تُليَت أمام برلمان إقليم كردستان أمس الأحد، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2017: "أرفض الاستمرار في منصبي كرئيسٍ لإقليم كردستان". وطلب البارزاني من أعضاء البرلمان ألّا يحاولوا مدّ ولايته حين تنتهي في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2017. وكتب: "سأواصل نضالي للحصول على حقوق شعبنا والحفاظ على منجزاته".
ولم يعتذر البارزاني عن الاستفتاء، بل ألقى باللائمة على ما وصفه بخيانة رفاقه الأكراد وتحوُّل حلفائه الأميركيين الذين ساعدوا في تدريب وتجهيز قوات الأمن الكردية بعد التراجع الاقتصادي في الإقليم، وفقاً لنيويورك تايمز.
ولاتزال حكومة إقليم كردستان في شمال العراق تعاني من أسابيع من الصراع منذ أجرت استفتاءً على الاستقلال الشهر الماضي، سبتمبر/أيلول 2017، حسب تقرير لصحيفة فايننشيال تايمز البريطانية.
وكان الاستفتاء، الذي ندَّدت به بغداد ورُفِض دولياً، قد ارتد بنتائج عكسية على حكومة الإقليم، وذلك حينما أثار صداماتٍ مع الحكومة المركزية في بغداد وتسبَّب في خسارةٍ كبيرة للإقليم أمام القوات العراقية.
ويؤشِّر خطاب البارزاني على سقوطٍ متسارع. فقبل أسابيع مضت فقط، كان هو بطل حلم شعبه الطويل بإقامة دولة. لكن تبيَّن أنَّ الخطوة كانت مقامرة خسرها البارزاني بطريقةٍ مذهلة، وذلك بعد مواجهته غضب بغداد وإثر انشقاقٍ مفاجئ من جانب الحزب الرئيسي المنافس في الإقليم، والذي اصطف إلى جانب الحكومة المركزية بعد الاستفتاء.
وبعد التمتُّع بمستوى غير مسبوق من الحكم الذاتي لعدة سنوات، تواجه حكومة إقليم كردستان أزمتين سياسيتين خطيرتين: الأولى في علاقاتها مع بغداد، العازِمة الآن على الحد من استقلالية الإقليم؛ والثانية من داخل الإقليم نفسه، وذلك مع تنازع الفصائل السياسية المختلفة حول الكيفية التي ينبغي التعامل بها مع التداعيات، ومَن ينبغي أن يتولَّى قيادة حكومة الإقليم الآن.
ووفقاً لما ذكرته وسائل إعلام محلية، وقع خِلافٌ داخل برلمان الإقليم على الفور تقريباً بعد قراءة بيان البارزاني، وتوقَّفت الإجراءات لأكثر من ساعة بسبب الخلافات بين الفصائل السياسية المختلفة حول الكيفية التي يجب بها توزيع الصلاحيات الرئاسية.
ووافق البرلمان في نهاية المطاف على مشروع قانون يُقسِّم الصلاحيات على النحو الذي أوصى به البارزاني، وذلك وسط اعتراضات نواب المعارضة، الذين طالب بعضهم بتسليم الصلاحيات الرئاسية لرئيس البرلمان عوضاً عن ذلك.
وامتد الخلاف بين فصائل الأحزاب المتنافِسة مساء الأحد، إذ اقتحم حشدٌ من المحتجين مقر البرلمان. وضرب بعض المتظاهرين نائباً في البرلمان انتقد البارزاني في أثناء مؤتمرٍ صحفي، بينما هاجم آخرون طاقم إحدى قنوات التلفزة التابعة للمعارضة. وبحلول وقتٍ متأخر من المساء، أفاد سكانٌ بأنَّ عدداً أكبر من الأشخاص، بعضهم يحمل عصياً، قد توجهوا إلى مقر البرلمان.
وبحسب نيويورك تايمز، أدَّى العنف إلى إداناتٍ من النائبة سروة عبد الواحد، قائدة الكتلة البرلمانية لحركة التغيير الكردستانية "غوران" والمُنتقِدة البارزة للبارزاني وحزبه. فقالت سروة: "ما حدث الليلة في البرلمان كان عملاً إرهابياً، والحزب الديمقراطي الكردستاني مسؤول أخلاقياً عن ذلك. إنَّنا نشهد تدمير مؤسستنا التشريعية في الإقليم بكاملها".
وأضافت الصحيفة أنَّ رئيس البرلمان، يوسف محمد، حمَّل مسؤولية العنف لـ"البلطجية والفوضويين".
واستمرت المواجهات بعد منتصف الليل، في ظل محاولات بعض قادة البيشمركة مساعدة أعضاء البرلمان على إخلاء المبنى. لكنَّ الحشود أصرَّت على اعتذار نواب حركة التغيير الكردستانية عما أسموه عدم الاحترام الذي أظهروه للبارزاني، حسب نيويورك تايمز.
وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر، أجَّلت حكومة إقليم كردستان كلاً من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي كان من المُقرَّر لها أن تجري في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 بسبب الأزمة مع بغداد. ومد البرلمان ولايته، لكنَّ مصير رئاسة الإقليم الآن أصبح غامضاً.
وكان البارزاني قد تولى منصب رئيس كردستان في عام 2005. وانتهت ولايته رسمياً في عام 2013، لكنَّها مُدِّدت مرتين، بمساعدة مسؤولين أميركيين ضغطوا على الأحزاب المنافِسة لقبول الصفقة.
لكن منذ ذلك الحين، تحدَّى البارزاني حليفه طويل الأمد، الولايات المتحدة، متجاهِلاً اعتراضاتها على استفتاء الاستقلال المُزمَع، وقاد حملةً مُتَّقِدة للتصويت بـ"نعم" للانفصال عن العراق، وهو الخيار الذي حصل على معظم الأصوات الشهر الماضي.
وانتقمت بغداد سريعاً من الاستفتاء الذي اعتبرته غير شرعي، فأغلقت المجال الجوي الدولي للإقليم، وسيطرت على مساحاتٍ واسعة من الأراضي التي كانت البيشمركة تسيطر عليها منذ عام 2014، بما في ذلك محافظة كركوك الغنية بالنفط. وأثارت تلك التقدُّمات صداماتٍ الأسبوع الماضي، بعدما بدأت القوات العراقية، مدعومةً من المجموعات شبه العسكرية المدعومة إيرانياً، الاقتراب من إقليم كردستان ذاته.
وذكرت نيويورك تايمز أنَّ تلك التطورات أدَّت إلى فقدان حكومة كردستان أصولها الاقتصادية الرئيسية والكثير من حقول النفط، وواجهت عزلةً دولية شبه كاملة.
وأضافت أنَّ تلك الإخفاقات أضعفت كثيراً موقف الأكراد في المفاوضات بين القادة العراقيين ونظرائهم الأكراد من أجل تنظيم توازن القوى الذي تغيَّر بشدة بين الجانبين.
وعُقِدَت المباحثات، التي توسَّط فيها مسؤولون بالجيش الأميركي، بعدما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وقفاً مؤقتاً للعمليات العسكرية الهادفة للسيطرة على المعابر الحدودية مع تركيا، وسوريا، وإيران، وفقاً لنيويورك تايمز.
وتنقل الصحيفة عن أشخاص مقرَّبين من المفاوِضين قولهم إنَّ بغداد تقترب من عقد اتفاقٍ مع القادة الأكراد سيُمكِّن القوات الاتحادية من السيطرة على المعابر الحدودية، ووضع معايير تُنظِّم الكيفية التي يُصدِّر بها إقليم كردستان نفطه، وهو الذي يُعَد مصدر دخلٍ ضروري بالنسبة لأحلام الإقليم في الاعتماد على الذات. ومن شأن هذا الاتفاق أن يُمثِّل أكبر تراجع للمكاسب السياسية الكردية منذ حصل الإقليم على الحكم الذاتي من بغداد بعد حرب الخليج 1991.
لكنَّ استقالة البارزاني، الذي لم يُسمِّ له خلفاً، تترك سؤالاً مفتوحاً عمَّن يمتلك السلطة للموافقة على اتفاقٍ كهذا، سواء داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم أو عائلته، كما تقول نيويورك تايمز.
وفي خطابٍ متلفز مساء الأحد، أكَّد البارزاني أنَّه قد استقال، ووجَّه نداءً عاطفياً لمؤيديه، قائلاً: "قبل انتخابي في 2005، وفي أثناء رئاستي، ومن الآن فصاعداً، أنا مسعود البارزاني نفسه. أنا فردٌ في البيشمركة، وسأواصل القيام بكل ما هو مطلوب، وسأقف بجوار شعبي في نضالهم من أجل الاستقلال".
وقال أيضاً إنَّ بغداد استخدمت الاستفتاء كذريعةٍ لهجومٍ مُعَدّ منذ فترةٍ طويلة للسيطرة على الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد. وقال: "لم يكن هدفهم تطبيق الدستور، بل كسر إرادة شعب كردستان".
ويُستبعَد أن يختفي البارزاني، وهو شخصية محورية في السياسة الكردية العراقية منذ عقود، من المشهد.
ففي مقابلةٍ مع وكالة أسوشيتد برس الأميركية، قال هيمن هورامي، أحد كبار مساعدي البارزاني، إنَّ رئيس إقليم كردستان "سيبقى داخل الحياة السياسية الكردية ويقود المجلس السياسي الأعلى".
وجادل المنتقِدون بأنَّ المجلس، وهو هيئة مبهمة أنشأها الاستفتاء، قد يُستَخدَم كوسيلةٍ من البارزاني ليواصل لعب دورٍ سياسي رئيسي دون منصبٍ حكومي رسمي.
وبحسب نيويورك تايمز، ركَّز البارزاني، منذ تولِّيه الرئاسة في 2005، سلطاتٍ كبيرة في منصب الرئيس، ووضع أفراد أسرته المُقرَّبين في مراكز قيادية مهمة. فابن أخيه، نيجيرفان البارزاني، هو رئيس وزراء الإقليم، وابنه، مسرور البارزاني، هو المسؤول عن أجهزة الأمن في الإقليم.
ولذا، قد تظل الكثير من صلاحيات البارزاني الحكومية في يد أسرة البارزاني. إذ يتوقَّع مُحلِّلو الإقليم أنَّ يُخصَّص لابن أخيه على الأرجح بعض الصلاحيات الرئاسية. ويُرجَّح كذلك أن تؤول بعض صلاحيات البارزاني الكبير إلى نجله مسرور.