اللامذهبية رأي يرى عدم اتباع مذهب فقهي ما والانتساب إليه والتسمّي به، ويدعو ذلك الرأي بالذهاب إلى الدليل رأساً، وترك ما يقوله المذهب إن ثبت الدليلُ على غيره.
وعلى الرغم من ميلي إلى هذا القول (في العموم نحن من العوام، لكن أقول ذلك من باب إبداء القناعة به فقط بالطبع)، فإنه لا يَخفى ظهور الكثير من السلبيات نتيجة سوء السلوك الذي تربَّى عليه مَن تبعه نتيجة التطبع بطابع تجاوز عمالقة العلماء.
كيف ظنك بشخص تربى على قول: قال أحمد كذا وقال الشافعي وقال أبو حنيفة.. و.. غلط! الصح كذا وكذا؟ حتى تحول الرأي عند البعض من أهل الدعوة لترك المذهبية إلى تحريم الانتساب لمذهب ما، وهو ما لا يقول به مَن ذاق أدب العلم.
"كورا" هو موقع يتيح لك سؤال الكثير من المتخصصين -وغير المتخصصين- في مجالات وتخصصات أو علوم متعددة.
كنت أبحث عن أمر يخص قوانين نيوتن لأجد الكثير من الأسئلة عن كون هذه القوانين مخطئة أم على صواب، كانت هناك إجابات محترفة وموضوعية لكن أيضاً كانت الكثير من الإجابات: "نعم" هكذا مطلقة، بل زاد أحدهم بعد فاصل من انتقادها: "لو أن نظرية ما حققت ونجحت في تفسير 99 حالة من 100 وبقيت حالة واحدة لم تفسرها، لقلت إن هذه النظرية.. غلط!"
هناك شيء ما يجذبك في أن تقول إن فلاناً غلط، خاصة إن كان عالما فذاً، فما بالك إن كان من أعظمهم.
القرن العشرون هو قرن أكبر الثورات العلمية دون شك، تكسرت على صخرته التصورات القديمة لحركة الكون وطبيعة وحركة الذرات.
خمسة وعشرون عاماً فقط من هذا القرن كانت كفيلة بأن تجعل العديد من التصورات والنظريات عن أكبر مكونات الكون وأصغره في القرون السابقة مجرد قصص قصيرة مسلية تذكر كنوع من التخفيف والتسلية أثناء المحاضرات!
قَلَبَ أينشتاين جُل المفاهيم عن حركة الكون رأساً على عقب بنظريته التي فسرتها من حولنا بدقة على العكس من قوانين نيوتن التي لم تكن مناسبة لها (لاحظ هنا التخصيص)، ثم تأتي ميكانيكا الكم وتجربتها الشهيرة الشق المزدوج ونظرية التشابك الكمِّي (quantum entanglement) وغيرها؛ لتخرج العلم من مرحلة اكتشاف رصانته إلى اكتشاف جنونه.
يكرر صاحبنا التعظيم والإجلال للسلف الصالح من أهل العلم الذين وضعوا أصول العلوم التي ينهل منها، ثم تراه يستخدم مكرراً كلمات كـ"زل" و"غفل" و"ابتدع" و"قياس فاسد" أو خاطئ.. إلخ، إن أظهر بعض الأدب.
تستشعر زهوه صائلاً جائلاً بين الأدلة والبراهين، تريد أن تجرب خُلُقَه الحقيقي؟ انظر إليه وهو يتكلم عن المعاصرين أو بعض أهل العلم أو الدعوة في العقود القريبة السابقة، فنظرة المرء لجهود الأقران -زمنياً- هي التي تظهر حقيقته.
النظريات التي أثبتت عدم فاعلية قوانين نيوتن لحساب حركة الكون الخارجي قد استخدمت يقيناً علم التفاضل والتكامل الذي ابتكره نيوتن، ذلك العلم الذي قال عنه مايكل هارت الذي وضعه كثاني أعظم الرجال في كتابه "أكثر مائة شخص تأثيراً في التاريخ": إنه لو لم يكن لنيوتن إنجاز سوى ابتكار ذلك العلم لكفى به ولم يكن ليتغير مكان نيوتن من القائمة في كتابه.
لزم التنويه بأن المؤلف وضع الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أول القائمة.
قوانين نيوتن فعَّالة تماماً لعالمنا الأرضي، لستَ بحاجة لحساب تغير الزمان أو الكتلة لجسم يقع من فوق برج الخليفة.
إن ذلك يبدو كأنك تعيب في ميزان يقيس حمولة ثلاثمائة طن قائلاً: إنه لم يحتسب وزن "فتلة" كوب الشاي التي ألقيتَها على الحمل أثناء إعداده! كل ما يتم حسابه في علوم التشييد والبناء والتصميم الميكانيكي وغيرها من العلوم الهندسية تستخدم قوانين نيوتن بأريحية تامة ودقة عالية وواقع وتنفيذ ناجحين وآمنين، ثم يأتيك من يقول إنها غلط!
بُلينا أيضاً ببعض أينشتاينيي العلمانية يدعون أيضاً أن الزمان يغير في كل الأحكام الفقهية، ثم ينتقي ما طاب له من معلوم الدين بالضرورة؛ ليدّعي تخلّف مَن يؤمن به، أصبح الحجاب رجعية، ودعوة الناس للمعروف تطرفاً، فقط لأن الأمر كان منذ ألف وأربعمائة عام.
لن تجد فرقاً كبيراً بين مَن يريد لأكثر نظريات الأرض استخداماً أن تصبح "غلط" وبين مَن يريد لأحكام دينك أن تصبح "قديمة".. أو "غلط" كما تبطن نيته؛ إذ إن المرض لا يخص ديناً أو علماً أو مجال عمل أو إبداع، لكنه طبيعة بشرية لن يسلم منها أي مجتمع أو درب من دروب العلم.
يذكر أن الشافعي كان يتجادل مع طلبة محمد بن الحسن الشيباني -قطب المذهب الحنفي في زمانه- بعد مجلسه معهم، فأخبر الطلبة شيخهم، فأمر الشيخُ الشافعيَّ أن يناظره وألحَّ عليه، فغلبه الشافعيُّ.
لم يقتنع أينشتاين بمبدأ عدم التأكد لهايزنبرغ، أعظم عقول الفيزياء، لم يقتنع بإحدى أهم حقائقها، فوق ذلك، ناظره هايزنبرغ في أحد مؤتمرات سولفاي وكانت حجج هايزنبرغ قوية، فالحقائق تظل حقائق مهما كان مَن عارضها، ومع ذلك ذكر أينشتاين في نقاش آخر مع بورن أنه سيظل غير مقتنع بأن الله يلعب النرد! بل ولم يؤمن عالم فرنسي لا يذكره التاريخ اسمه بواس بنظرية أينشتاين، ومع ذلك يذكر المفكر مالك بن نبي أنه ظل يحتفظ بمكانته في جامعته الفرنسية!
خرج الشافعي من المناظرة تلميذاً للشيباني مجلاً له، وخرج أيزنهاور من المؤتمر ليقف في أقصى يمين قائمة يتربع أينشتاين جالساً في منتصفها، ثم أتمَّ التاريخ قصصَه بعد ذلك.
العلوم بحار، لم ولن يوجد مَن يسبح من أحد شاطئيها إلى الآخر، لكننا بدلاً من أن نتعلم تعظيم العلم، بحثنا عن قصور العلماء.
هكذا حال من يقف على الشاطئ لا جهد له إلا لوم مَن خاضوا في بحار العلوم ونقلوا لنا أسراره قبل رحيلهم؛ ليتفاخر هو بها على الشاطئ.
هناك نوع آخر غير ذلك الذي يقف على الشاطئ متفلسفاً، إنه مَن يسبح عكس التيار، وأقصد هنا تيار العلوم والحقائق المثبتة بالفعل.
اُنظر مثلاً إلى ذلك المجرم الأميركي أندرو ويكفيلد الذي نشر بحثاً ادعى فيه أن التطعيم يُسبب التوحد، أدى هذا الكذب العلمي في وقت ما إلى توقف ربع سكان الدولة الأعلى سيطرة ثقافية وعلمية على العالم عن تطعيم أبنائهم (كانت النسبة 1% ومعظمهم من المهاجرين).
صورة معكوسة من عبد العاطي مصر، الأول أثبت تحول الفيرس إلى كفتة، والثاني أثبت تحول الكفتة إلى توحّد.
لكن بما أن الآخر في بلاد تحترم العلم، سلبت منه شهادته وأصبح رسمياً عضواً في نادي الدجالين.
هذا هو الفارق بين بلاد تحترم العلوم وبين مَن يرى عدم جدوى العلم في بلد ضائع!
* تحدث الساخر جون أوليفر عن ذلك البحث الفاشل هنا
* وذكره أيضاً الرائع أحمد الغندور في حلقة الدحيح هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.