قبل شهرٍ مضى، كان أكراد العراق يحتفلون بالتصويت الرمزي على الاستقلال باعتباره خطوةً تاريخية نحو تحقيق حلمهم الذي بتأسيس دولة كردية، في ظل وجود احتياطيات من الطاقة تكفي لضمان أن تعيش أجيالٌ تالية في رخاء.
ولكن بدلاً من المضي قدماً بالمفاوضات في اتجاه انفصال سلس عن بغداد، تلقَّى الساسة الأكراد صفعةً بفقدانهم أهم مدن إنتاج النفط، كركوك، بعد أن استولت عليها القوات العراقية الأسبوع الماضي.
وقد أسفرت هذه الخطوة عن تأزيم وضع اقتصاد الأكراد الذي كان سيئاً بالفعل وتحطيم آمال إقامة دولة مستقلة، بينما يواصل زعماء الإقليم خططهم للبقاء في السلطة، حسب تقرير لوكالة أسوشيتد برس الأميركية.
والأدهى من ذلك، أن الولايات المتحدة، حليفهم التقليدي، وتركيا، التي حافظت في العادة على علاقات طيبة مع أكراد العراق، لم تقوما بأي شيءٍ يُذكَر للوقوف ضد حكومة بِغداد المركزية، وينتاب الزعماء الأكراد شعورٌ بأنهم تحت الحصار في عالمٍ مصطفٍّ بعزمٍ ضد رغبتهم في الانفصال.
وفي هذا الصدد، قال علي عوني، مستشار الرئيس الكردي مسعود بارزاني: "إنهم يريدون أن يدفعونا إلى حربٍ أهلية".
وقد زار وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، بغداد، الإثنين 23 أكتوبر/تشرين الأول 2017، وسط آمالٍ بأن يتمكَّن تيلرسون، الذي شغل سابقاً منصب رئيس مجلس إدارة شركة إكسون موبيل النفطية، من التوسُّط بين الأكراد والعراق، غير أنه لم تطرأ أي تغييرات فورية على النزاع.
السيطرة على الحدود
وصرَّحَت قوات البشمركة الكردية، التي اضطلعت بدورٍ بارز في الانتصارات التي أُحرِزَت مؤخراً على مُتطرِّفي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، يوم الثلاثاء 24 أكتوبر/تشرين الأول 2017، بأنها صدَّت محاولتين للتقدُّمِ من جانب القوات العراقية الفيدرالية والميليشيات الموالية لإيران التي تدعمها نحو منطقتين حيويتين للاقتصاد النفطي للمنطقة الكردية.
كما ذكر مجلس الأمن الكردستاني، أن قوات البيشمركة صدَّت محاولةً للتقدُّم من جانب القوات الفيدرالية في اتجاه آخر أكبر حقول النفط المتبقية تحت سيطرة الأكراد.
وكان سد خورمالة النفطي يخضع لتشغيل شركة نفط الشمال التابعة للحكومة الفيدرالية قبل أن يجري تسليمه لحكومة إقليم كردستان عام 2007.
وطالَبَ رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بأن يُسلِّم المسؤولون الأكراد خط أنابيب مُتنازَعاً عليه بين المنطقة الكردية وتركيا، وهي خطوةٌ من شأنها أن تقضي على صادرات النفط الكردية وتُحطِّم ميزانية الإقليم.
وتقول بغداد إن الحدود مع تركيا تتبع السلطات الفيدرالية حسب الدستور.
وفي هذا السياق، وبسبب الاضطرابات والتصاعد المستمر لأعداد القوات الفيدرالية العراقية على الحدود الكردية، أعلن البرلمان الكردي، الثلاثاء، تأجيل الانتخابات 8 أشهر. كما عرضت الحكومة الكردية تجميد نتائج الاستفتاء المثير للجدل كجزءٍ لحوار مقترح مع بغداد.
وقد صرَّحَ سعد بيره، القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو أحد الحزبين اللذين تشاركا بفاعليةٍ في السيطرة على الإقليم المستقل ومؤسساته الأمنية: "لا أتصوَّر أن هذا هو الوقت المناسب لإعداد قوائم الناخبين واختيار أماكن الاقتراع".
أول اجتماع للبرلمان
ويقول المعارضون إن الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه بارزاني يكسبان الوقت؛ في محاولة لإصلاح نظام يبدو متزايد الهشاشة من الداخل. وقد اجتمع البرلمان الكردي، الثلاثاء، للمرة الأولى منذ عام 2015، بعد أن جمَّدَ بارزاني نشاطه على أثر خلاف مع حزب كوران (حركة التغيير الكردية) المعارض.
وفي هذا الصدد، صرَّحَ بجدار حسن، أحد المسؤولين السياسيين بحزب كوران، بأن المسؤولين الأكراد سيعقدون الانتخابات في الوقت المناسب لهم، وإن كان الوقت غير ملائم لهم فسيخرجون بعددٍ لا حصر له من الأعذار لتأجيلها.
ويشكو المقيمون في كردستان من المحسوبية والفساد وعدم سداد الأجور، بينما تلاحق السلطات جماعات مُنشقَّة تكدر صفو الدولة وتفرض على وسائل الإعلام، باستخدام وسائل الترغيب والترهيب، عرض تغطية إيجابية لجهودها.
ويقول كارزا نبيل، وهو كهربائي في السادسة والثلاثين من عمره: "في حال عُقِدَت الانتخابات، فإن أحداً لن يصوِّت فيها؛ فالناس تعبوا من كثرة الكذب".
الكباب
ولا يتلقى موظفو حكومة الإقليم سوى نصف أو ثلث رواتبهم، وفي بازار أربيل، تمتهن جميع طبقات الشعب، من شرطة المرور إلى المدرسين، البيع الجائل وبيع الشاي والقهوة بعد ساعات العمل الرسمية؛ للوفاء باحتياجات بيوتهم.
ويقيس ناباس خطاب، (46 عاماً)، حركة السوق بكمية الخبز المُتوافر في محل الكباب الذي يملكه؛ وفي هذا الصدد يقول: "اعتدنا بيع 1000 رغيف يومياً؛ أما الآن، فلا نبيع سوى 200".
كما أن المشهد قاتمٌ على الحدود، حيث يشهد قادة الأكراد تضافر الجهود بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومتي تركيا وإيران لتضييق خناق العزلة على المنطقة الكردية الحبيسة.
أردوغان
ولا تزال هناك الكثير من الأسباب المثيرة للقلق لدى الأكراد.
فبمجرد إشارة من أنقرة، سيجري إغلاق خط أنابيب النفط الخام من المنطقة الكردية إلى تركيا لخنق الاقتصاد الكردي.
وفي أعقاب استفتاء الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول، هدَّدَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بفعل ذلك. وقد اعتادت تركيا الحفاظ على علاقات طيبة مع أكراد العراق، غير أن رد فعلها على الاستفتاء كان غاضباً؛ خوفاً من أن يؤجِّج انفصال أكراد العراق الحركة الانفصالية الكردية داخل حدودها.
وعلى الرغم من أردوغان لم ينفذ ذلك التهديد، فإنه لم يفعل إلا القليل لإثناء العبادي عن السيطرة على خط الأنابيب الممتد من الجانب العراقي من الحدود.
وكانت سيطرة القوات الفيدرالية على كركوك الأسبوع الماضي، ضربةً مزدوجةً للمنطقة الكردية؛ إذ نعتت بغداد المدينة بأنها "محل نزاع"، بخلاف ما يُزعم به الأكراد بأنها تابعةٌ لهم.
وإبان حكم الرئيس العراقي صدام حسين، استُهدفت المدينة بحملات التعريب التي قادها حزب البعث الحاكم والتي أخرجت الأكراد من المراكز الحضرية شمال العراق ودفعتهم إلى الأراضي الحبيسة التي يقطنونها حالياً في الشمال الشرقي.
ولا تعتبر مقاطعة كركوك جزءاً من منطقة الحكم الذاتي الكردي بموجب الدستور العراقي لعام 2005.
خسارة نفطية فادحة
وقد أدت خسارة كركوك إلى خفض الإنتاج الكردي من النفط لأكثر من النصف، من 790000 برميل يومياً إلى 350 ألف برميل يومياً، وفقاً للأرقام الصادرة في سبتمبر/أيلول 2017 عن معهد العراق للطاقة.
وفي هذا الصدد، صرَّحَ العبادي بأن كل ما فعله هو تطبيق نص الدستور، وعَرَضَ الأسبوع الماضي عقد محادثات بين القيادة الكردية والحكومة المركزية، وهو العرض الذي لقي استجابةً إيجابية من الحزبين المسيطرين في كردستان، غير أن الوضع بالمنطقة الكردية لم يتغير بعد.
فقد حظرت بغداد، التي تسيطر على المجال الجوي الكردي، الرحلات الدولية إلى المنطقة، مطالبةً القادة الأكراد بالتنصُّلِ من استفتاء الاستقلال.
وقد وصف العبادي، بعد استعادة كركوك وغيرها من الأراضي بشمال العراق، استفتاء الاستقلال بأنه "شيءٌ من الماضي"، غير أنه لم يرفع القيود عن السفر.
وقد باتت صالات مطار أربيل الذي اعتادت زحام المسافرين، خاويةً على عروشها إلا من وقع أقدامٍ بين الحين والآخر، ليظل بذلك تذكرةً للساسة الأكراد بضعفهم أمام قوى الدولة العراقية وبنقمة الناخبين المهانين عليهم.