مظاهرات وإضرابات واعتقالات، هكذا قد يكون المشهد في كتالونيا في المرحلة القادمة، مع اتجاه الأزمة للتصعيد في ظل غياب أي محاولة للتفاوض أو التوصل لحلول وسط بين الجانبين، بشكل ينذر ليس فقط بتفاقم المشكلة، ولكن بانتقالها أيضاً إلى مناطق أخرى قد تدعم الإقليم المتمرد.
على مدار أعوام انتشرت التحذيرات بشأن الاصطدام الوشيك في كتالونيا، إلا أن شيئاً لم يجرِ لمنعه. وهو ما أفضى إلى الوضع الحالي الذي راقب فيه الإسبان بفزع هذا الاصطدام بالسرعة البطيئة على مدار ثلاثة أسابيع، والذي ازداد سوءاً جراء قرار فرض الحكم المباشر على كتالونيا والصادر من مدريد.
وبينما يلقي كل من قادة الجانبين باللائمة على الجهة الأخرى، يتصاعد الغضب تجاه عدم قدرة أي من الجانبين التنازل عن كرامته والتراجع خطوة إلى الوراء، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
فقد كتب فرناندو غاريا، أحد قدامى المعلقين في صحيفة El Confidencial الإلكترونية: "الآن بينما نحن على حافة الهاوية، فلا يبدو أن هناك خياراً آخر سوى السقوط، ويمكننا أن نستمر في الجدال من قعر الهاوية".
العصيان المدني
وبعد فشل السياسة، جرى التحريض على العصيان المدني ضد قانون مدريد. يعتقد القادة الانفصاليون أنهم سيفوزون بالمواجهة، إذ إن أي صدام بين القوى الشعبية والدولة سينجح في خلق المزيد من الداعمين لقضيتهم، والذين بلغت نسبتهم 41% فقط قبل الاستفتاء الفوضوي وعنف الشرطة، الذي وقع في الأول من أكتوبر/تشرين الأول.
بالرغم من ذلك، يشير استطلاع للرأي أجرته صحيفة El Periódico ببرشلونة، الأسبوع الماضي، إلى أنه بالرغم من الغضب والتعاطف الذي أثارته انتهاكات الشرطة، فإن الانفصاليين ما زال أمامهم طريقٌ طويل قبل أن يكون بوسعهم الزعم أنهم يمثلون إرادة الكتالونيين.
فبحسب ذلك الاستطلاع، يظن 55% من الكتالونيين أن الاستفتاء –الذي بلغت نسبة الأصوات القابلة للعدِّ فيه 43%- لا يمكن أن يمثل أساساً صالحاً لإعلان الاستقلال. إلا أن كارلس بوغديمونت، رئيس إقليم كتالونيا، هدَّد بطلب ذلك بالضبط من البرلمان الإقليمي رداً على فرض الحكم المباشر.
محاكمة النواب
وبامتلاك الانفصاليين الأغلبية البرلمانية –والتي استخدموها لتمرير قانون الاستفتاء الذي أسقطته المحكمة الدستورية لاحقاً- فإن أي تصويت سينجح. يمكن أن يجد جميع النواب الذين صوتوا إيجاباً لصالح القرار –حوالي 70 من النواب- أنفسهم أمام المحاكم الإسبانية.
فمن الواضح حالياً أن الحكومة المحافظة بقيادة ماريانو راخوي لن تتوانى عن فرض القانون والحكم مباشرة، خاصة بعد نيلها دعم قادة الاتحاد الأوروبي. من ناحية أخرى، من المستحيل تقدير شهية الانفصاليين للمزيد من المواجهة.
نتائج القتال
يمتلك راخوي القانون في صفِّه وقوة الدولة بين يديه. إن قرر الانفصاليون القتال، فمن المرجح أن يخسروا العديد من المعارك. يمكن أن يسهم ذلك في نيلهم التعاطف باعتبارهم أفراداً يتعرضون للقمع كما يدعون، إلا أنه خيار صعبٌ لمسانديهم، خيار يتطلب متطوعين للشهادة ومواجهة القضايا والغرامات وحظر تولي المناصب العامة، وربما السجن كذلك.
الإثنين الماضي، حين أثار أحد القضاة المزيد من التوترات باعتقاله جوردي سانشيز وجوردي كوشارت، زعيما جماعتي الضغط الانفصاليتين الرئيسيتين في البلاد، بتهمة التحريض، احتجَّ 200 ألف شخص في برشلونة على ذلك. إلا أن دعوة جماعتي الضغط الناس لسحب أموالهم من البنوك "غير الوطنية"، يوم الجمعة، لم تلق إلا إقبالاً متدنياً.
إلا أن المقاطعة من شأنها أن تُسفر عن ردود أفعال عكسية. كان أكبر بنكين في إسبانيا، لا كايكسا وساباديل، قد نقلا مكاتبهما الرئيسية إلى خارج الإقليم، إثر تهديدات بوغديمونت بإعلان الاستقلال من طرف واحد. ويمكن لمقاطعة السلع الكتالونية في بقية إسبانيا أن تدفع المزيد من الشركات للرحيل عن الإقليم.
لن يستمتع جوردي سانشيز، زعيم رابطة الجمعية الوطنية الكتالونية، بالسجن –حيث يصرخ به المسجونون الآخرون "تحيا إسبانيا"- إلا أنه يعلم أن اعتقاله قد أضاف المزيد من الداعمين للقضية.
الفخ الذي وضعه الانفصاليون
المفتاح الرئيسي للرواية الانفصالية التي نُسجَت خلال السنوات الست الماضية، يكمن في أن كتالونيا، وسكانها، هم ضحايا. وهو ما تم تعزيزه في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2017، وسيأمل الانفصاليون في أن يزيد الحكم المباشر –الذي تشير الاستطلاعات إلى معارضة ثلثي الكتالونيين له- من هذا الشعور.
في كل الأحوال، إنهم يخططون الآن لتحويل الحكم المباشر إلى كارثة غير قابلة للتطبيق. تشير التقارير إلى أن الوزراء الإقليميين قد يرفضون التخلي عن مناصبهم، ما سيستلزم تدخل الشرطة لإزاحتهم، مع وجود حشود سلمية لمنع ذلك. ستمتلك وحدات الشرطة المنوط بها القيام بهذه المهمة حينها حق تقرير استخدام القوة لإفساح الطريق. وهو ما قد يسفر عن بعض الاضطرابات.
يُحتمل كذلك أن يرفض مسؤولو الحكومة المحلية، وبعض من قوة الشرطة الكتالونية، التعاون أو أن يلجأوا إلى عصيان أوامر مدريد عن عمد، إلا أنه سيكون عليهم مواجهة الإجراءات القضائية والغرامات كذلك.
نقطة ضعفهم الصارخة
وإذا كان تراجع الاقتصاد الإسباني في السنوات الأخيرة أدى إلى تأجيج النزعة الانفصالية في كتالونيا، حيث يعتقد الكثيرون أن الإقليم يدفع أكثر مما ينبغي لمدريد، حسب تقرير لـ"بي بي سي"، فإن الاقتصاد هو نقطة ضعف الانفصاليين الصارخة، وفقاً للغارديان.
إذ إن تهديداتهم بإعلان الاستقلال من طرف واحد تُفزغ الأعمال التجارية، إذ أدت بالفعل إلى نقل 1200 شركة مقراتها إلى خارج إقليم كتالونيا خلال الأسبوعين الماضيين. وهو ما يثير مخاوف البعض من تحول محتوم في القوة الاقتصادية النسبية لمدريد وبرشلونة.
في افتتاحية صحيفة La Vanguardia البرشلونية، يوم السبت، قالت الصحيفة إنه "بالرغم من التداعيات الدرامية لهذه الظاهرة، لم يُكلف أحد من الحكومة الإقليمية الكتالونية نفسه بشرح ما يجري لأولئك الذين يتطلعون بقلق، وألم أحياناً، إلى ما يشهده الاقتصاد الكتالوني من خروج رؤوس الأموال".
واتهمت الافتتاحية أوريول جونكيراس، المسؤول الثاني في الحكومة الكتالونية وزعيم حزب اليسار الجمهوري الكتالوني، برفضه مواجهة الواقع، قائلة "ادعى لوقت طويل أن الأسواق سترحب بالدولة الوليدة بأذرع مفتوحة"، وأضافت الصحيفة أن "الخوف من السقوط في الهاوية وانعدام الأمن القانوني" يدفع الشركات إلى الخارج.
وتابعت "هل تعتقد الحكومة الكتالونية أن المستثمرين الدوليين سيأتون لمكان يرحل سكانه عنه بشكل جماعي؟".
لماذا يتوق راخوي للإضرابات؟
أما راخوي، المشهور بقسوته، فمن المرجح أن ينتظر قيام الإضرابات عن الخدمة العامة، آملاً أن تسفر هذه الإضرابات عن تحويل رأي ناخبي كتالونيا ليصبحوا ضد الاستقلال.
كان حزب راخوي قد رغب منذ وقت طويل في الحد من تفويض السلطات في إسبانيا، ويرى البعض أن الوضع الراهن يمثل سبيلاً لذلك. يوم السبت، وصفت كارمي فوركاديل، المتحدثة باسم البرلمان الكتالوني، الإجراءات بأنها "انقلاب حقيقي"، وأضافت "إنه انقلاب استبدادي داخل دولة في الاتحاد الأوروبي"، مضيفة أن راخوي عزم على "إنهاء حكم حكومة منتخبة ديمقراطياً".
وقال رئيس وزراء الحكومة الإقليمية لإقليم الباسك "إنه إجراء متطرف وغير مناسب، وهو ما يدمر الجسور بين الطرفين. نحن نساند الحكومة الكتالونية في سعيها نحو مستقبل بنّاء".
في الوقت ذاته، يرى بابلو إغليسياس، زعيم تنسيقية بوديموس (حزب يساري إصلاحي)، في الوضع الراهن مؤامرة من قبل الأحزاب "الملكية"، بما في ذلك الاشتراكيون. قائلاً "إن ذلك يظهر عدم قدرتهم على الوصول إلى حلول، وهو ما يدفع كتالونيا بعيداً عن إسبانيا".
الضربة المدمرة
أما الضربة الأقسى التي تلقاها الانفصاليون فقد تمثلت على الأرجح في الدعم الذي حصل عليه راخوي من أنجيلا ميركل وإيمانويل ماكرون، وغيرهما من القادة الأوروبيين.
ففي حين يرى مساندو الاستقلال القمع والدولة الاستبدادية والسجناء السياسيين، يرى قادة أوروبا مشكلة إسبانية داخلية يجب حلها في إطار القانون الديمقراطي القائم. وبالنظر إلى أن القليل من الانفصاليين يرغبون في الرحيل عن الاتحاد الأوروبي، يُعد هذا الدعم الأوروبي ضربةً مدمرةً.