عندما تدرس في ألمانيا لنيل درجة الدكتوراه في أحد العلوم الإنسانية لا بد أن تدرس علمَين مساعدين غير مادة التخصص.
عندما علمت بهذا الأمر استثقلته جداً وحاولت التفلت منه، لكن مع الألمان لا مفر، فاخترت علم الاجتماع والاستشراق الألماني.
وبالفعل عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم؛ لأنني الآن عندما أنظر للخلف أجد أن دراستي لهذين العلمين كانت من أهم إنجازات الدراسة في ألمانيا، وأجزم بأن نظرتي للحياة اختلفت جداً بعد دراسة علم الاجتماع ومعرفة كل هذه الأفكار الملهمة والعجيبة للفلاسفة وعلماء الاجتماع الألمان وغيرهم.
وأذكر أن أول أستاذ درست عليه كان أستاذاً ألمانياً وُلد وعاش حياته في إحدى دول أميركا اللاتينية، ولا داعي لذكر اسمه، ولكن كانت له قصة عجيبة ولكن معتادة فيما يخص الألمان؛ فأبوه كان ممن هربوا إلى أميركا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية فوُلد هناك وشبَّ، ولما أصدر الألمان قانون العودة الذي يقول بأحقية عودة ذوي الأصول الألمانية من كل أرجاء العالم إلى ألمانيا، عاد كآلاف غيره، واستعاد جنسية آبائه ودرس في ألمانيا حتى أصبح أستاذاً معروفاً لعلم الاجتماع.
وكان متخصصاً في الجماعات الاجتماعية الجديدة مثل منظمات البيئة وأحزاب الخضر وما شابه ذلك.
المهم في أحد الأيام كان لديَّ صداع هائل ومع ذلك صمّمت على الذهاب لمحاضرته، ولأنني وصلت متأخراً فقد دخلت بهدوء من الباب الخلفي، فوجدته يتكلم عن "الأديان الجديدة" ويسميها "الأديان العلمانية"!
وكان معجباً بتعريف للدين لعالم اجتماع آخر لم أتبين جنسيته، ولكن اسمه ميلتون يانجر.
وقد قال هذا العالم في تعريفه هذا بأن الدين "نسق من المعتقدات والطقوس التي تستطيع بواسطتها مجموعة من البشر مواجهة المشكلات الأساسية في الحياة".
وقال إن هذا التعريف السهل البسيط الموسع يمكن أن ينطبق على أشياء كثيرة في حياتنا المعاصرة، ومن أهمها كرة القدم! وكما ترى هذا قد يكون طبيعياً لألماني قادم من إحدى دول أميركا اللاتينية المدمنة لكرة القدم!
المهم ظل الرجل -كعادة الألمان- يفلسف في موضوع كرة القدم ويتعمق من كافة جوانبه، وكان رأيه بالفعل أن كرة القدم هي أحد أهم ما يسميه بـ"الأديان العلمانية الجديدة"، وأنها ذات وظائف تعمل على خلق التكامل الاجتماعي مثلها مثل الأديان التقليدية سواء أكانت سماوية وأرضية!
وبعد ذلك بدأ يقارن بين كرة القدم والأديان التقليدية ويطلب منا تصحيحه إن أخطأ، فكان يقول إن لكرة القدم طقوساً وتابعين متدينين بعضهم تدينه معتاد أو تقليدي مثل مجموعات "الأولتراس"، وبعضهم متطرف في تدينه، بل ومنظم في جماعات إرهابية متطرفة مثل مجموعات "الهولجنز" في إنكلترا وغيرها.
وعندما انتهت المحاضرة كنت غير متأكد مما فهمته فأردت مناقشته، ولكنه عاتبني على المجيء متأخراً، وقال: إن هذا سبب عدم الربط بين الأفكار، ثم زاد الجرعة فقال: إن طالب الدكتوراه لا بد أن يكون أكثر انضباطاً. فتحججت له بالصداع وأن عيني الشمال تؤلمني والطبيب لم يجد فيها أي عيب. فقال لي بكل بساطة: "طالما العين سليمة ولكن تؤلمك فلا بد أن تذهب لطبيب ضغط الدم وليس لطبيب العيون!"، وبعد فترة اكتشفت أن الرجل كان على حق! وصدق من قال اسأل مجرب ولا تسأل طبيب (عيون).
المهم أنه قال لي في النهاية: "إننا وزعنا موضوعات الطلاب وبقي موضوع واحد تركته لك؛ لأنك تكلمت عنه مرة في أحد تعليقاتك، وهو المقارنة بين الجماعات الإسلامية والجماعات الاجتماعية الجديدة مثل أحزاب الخضر ومنظمة الجرين بيس وخلافه، وظني أنك أنسب واحد لكتابة هذا الموضوع!".
فشكرته وانصرفت، ولأن لغتي الألمانية الأكاديمية كانت لا تزال تعبانة، فإن كل زميلات القسم تقريباً عرضن مساعدتي، فوافقت على كل العروض! وكنت كلما كتبت جزئية من البحث أعطيها لزميلة مختلفة كي تراجعها! والحمد لله ربنا كافأني بسبب قلبي الكبير وأخذت أعلى درجة في هذا الفصل الدراسي بسبب هذا الموضوع!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.