سنوات طويلة مرَّت على المغاربة وهم يطالبون بإلغاء معاشات البرلمانيين والوزراء، دون أن يتم الالتفات إلى أصواتهم المنادية بما يعتبرونه "ريعا" يثقل كاهل ميزانية الدولة ويستنزف ماليتها، قبل أن يتقرر بشكل فُجائي توقيف هذه المعاشات ابتداء من فاتح أكتوبر/ تشرين الأول 2017، وفق ما أعلن عنه الصندوق الوطني للتقاعد والتأمين الموكول له بصرف معاشات البرلمانيين المغاربة.
الوثيقة التي أشرَعها الصندوق الوطني التابع لصندوق الإيداع والتدبير، في وجه البرلمانيين، أكدت أنه يعاني عجزاً مالياً ولا يتوفر سوى على 300 ألف درهم في رصيده (حوالي 30 ألف دولار)، وهو مبلغ لا يكفي لمواصلة أداء المعاشات القديمة والجديدة ابتداء من أول أكتوبر 2017.
جدل قديم جديد
قرار توقُّف معاشات البرلمانيين المغاربة، الذي لم يأتِ استجابة لضغط الشارع أو رُضوخاً لنبض المبادرات المدنية والجمعوية التي نادَت قبل سنوات خلت إلى القَطع مع هذا الامتياز الذي يمكن النائب البرلماني من الاستفادة من معاش يتراوح ما بين 500 دولار و1500 دولار حسب السنوات التشريعية التي قضاها في منصبه النيابي، بث الغضب والترقب في نفوس البرلمانيين، خاصة مع مقترح قدمه الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية الحاكم لوقف صرف التقاعد نهائياً.
وسبق لهذا الموضوع أن أثار جدلاً واسعاً بين المغاربة، حيث أطلق نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي حملة شعبية لإلغاء تقاعد البرلمانيين والوزراء تحمل الهاشتاغ نفسه قبل سنوات قليلة مطالبين رئيس الحكومة آنذاك عبد الإله بنكيران إلى اتخاذ قرار الإلغاء، فيما بادر مجموعة من النواب البرلمانيين كعبد العزيز أفتاتي وسعاد بلعيش وياسين الراضي وخديجة أبلاضي إلى الإعلان عن تخليهم عن معاشاتهم.
الناشط الجمعوي والمدون عبد العالي الرامي، وأحد مطلقي حملة إلغاء تقاعد البرلمانيين والوزراء، يجد أن مقترح إلغاء التقاعد خطوة متأخرة، متمنياً أن يكون فريق العدالة والتنمية صادقاً في طرحه بعيداً عن الفرقعة الإعلامية لتهدئة الشارع المغربي، منتظراً أن يقوم الفريق بإتمام عمله والدفاع عن مقترحه إلى حين اعتماده كما يصرح لـ"عربي بوست".
مزايدة سياسية للعدالة والتنمية
الطلب الذي تقدم به فريق العدالة والتنمية المغربي أياماً قليلة بعد إعلان الصندوق عن "إفلاسه"، والمتمثل في إلغاء تقاعد البرلمانيين، زاد الطين بلة، وأثار حنق البرلمانيين، معتبرين أن خطوة الحزب الذي يترأس الائتلاف الحكومي مزايدة سياسية وقرار متأخر، متسائلين عن الدوافع التي جعلت فريق الحزب داخل البرلمان يسارع إلى طلب إلغاء التقاعد بعد إعلان الصندوق الوطني إفلاسه وليس قَبلاً.
النائبة البرلمانية المتقاعدة خديجة أبلاضي، قالت لـ"عربي بوست"، إن إلغاء تقاعد البرلمانيين يحتم إلغاء الاقتطاع من أجرة البرلمانيين الذي يباشره الصندوق المغربي للتقاعد.
واعتبرت البرلمانية السابقة، أن النقاش الحقيقي يجب أن ينصب في البحث والتحقيق عن الأسباب الواقفة وراء إفلاس هذا الصندوق، وعن الطرق التي تبَدَّدت بواسطتها أموال المغاربة.
وتساءلت المتحدثة قائلة، "لماذا تم التغاضي عن الفساد وهدر المال بدون وجه حق والذي ظلت مؤسسة الصندوق المغربي للتقاعد تتخبط فيه لعقود رغم أن جهات عدة دقت ناقوس الخطر ونبهت لحجم الإفلاس والضرر الذي سينجم عن الاستهتار بالمطالب المتزايدة لإصلاح هذا الصندوق".
استغلال المال العام
البرلماني عبد اللطيف برحو، نفى أن يكون ما أقدم عليه الفريق "جدلاً سياسياً"، موضحاً أن صندوق تقاعد البرلمانيين يعيش عجزاً منذ أربع سنوات خلت مقدراً بـ 30 مليون درهم (أكثر من ثلاثة ملايين دولار)، موضحاً أن مجموع موارده تقدر بـ 28 مليون درهم، في حين يصرف الصندوق 58 مليون درهم، خالصاً إلى أن الأموال التي تُضخّ في الصندوق لا تكفي لتسديد معاشات نصف البرلمانيين.
وأوضح عضو مجلس النواب ضمن حديثه لـ"عربي بوست"، أن إصلاح هذا الصندوق يتطلب حلين اثنين وفق ما اقترحه مسؤولوه على البرلمان، يتمثل أولهما في اعتماد إصلاحات معيارية والثاني قاضي بتقديم الحكومة لدعمها عبر تغطية مبلغ العجز.
برحو الذي ساهم في بلورة مقترح قانون لإلغاء تقاعد البرلمانيين، أكد أن فريق العدالة والتنمية المغربي، رفض هذين الحلين معاً، على اعتبار أنهما سيثقلان كاهل المالية العمومية، مشدداً على أن الفريق يرفض تمويل هذا العجز من المال العام، ليقوم الفريق بتقديم ما اعتبره حلاً ثالثاً متمثلاً في إلغاء هذا التقاعد من أصله.
منحة مدى الحياة
القانون المغربي يضمن للبرلماني في غرفتي النواب والمستشارين، معاشاً بقيمة 500 دولاراً أميركياً، إذا أكمل ولايته التشريعية المكونة من خمس سنوات، ما يعني 1000 درهم عن كل سنة تشريعية، ما يمكن من رفع المعاش شريطة عدم تجاوز 15 ألف درهم ما يناهز 1500 دولار.
ويقضي القانون 92-24 بإحداث معاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب عبر تخصيص منحة مدى الحياة تصرف بعد مغادرتهم البرلمان، تتراوح ما بين 500 و1500 دولار صافية ومعفاة من الضريبة، حيث يقتطع صندوق تقاعد البرلمانيين مبلغاً يناهز 290 دولاراً شهرياً من أجرة النائب البرلماني التي تبلغ 3200 دولار، يضاف إليها مبلغ مماثل تضخه الدولة من ماليتها.
الكرة الحارقة التي رماها الصندوق الوطني على حين غرة بين يدي مجلس النواب جعلته يعيش تحت صفيح ساخن، دفعت برئيس مجلس النواب الحبيب المالكي إلى مراسلة رئيس الحكومة سعد الدين العثماني يعرض عليه مقترحات عامة لحل أزمة تقاعد البرلمانيين، في وقت أكد فيه رئيس الحكومة خلال لقاء صحفي أن المشكل شأن برلماني لا يحتاج تدخل الحكومة.
حلحلة المشكل
من أجل الخروج من الأزمة، بادر رئيس مجلس النواب إلى مراسلة القصر الملكي في الموضوع طلباً لتدخله، كما عقد اجتماعاً مع رؤساء الفرق والمجموعات النيابية، اتفقوا خلاله بالإجماع على ضرورة إيجاد حل جذري للملف بعيداً عن ما أسماه "الديماغوجية والسياسوية"، رافضاً بشكل قاطع إلغاء المعاشات.
وتفاعل العديد من النشطاء والباحثين في موضوع الرسالة التي وجهها رئيس مجلس النواب إلى الديوان الملكي طلبا لتدخله حيث كتب الباحث عمر الشرقاوي:
أما الناشطة مايسة سلامة الناجي فدونت على صفحتها في فايسبوك
وفي نفس الاتجاه سار الباحث الأكاديمي الباحث يحيى اليحياوي قائلا
ونفى مصدر مقرب أن يكون المالكي لجأ إلى الديوان الملكي طالباً تحكيم الملك في الملف، مؤكداً أن حلحلة هذا الملف تسير نحو إصلاح الصندوق الوطني للتقاعد والتأمين، عبر اعتماد مجموعة من التدابير من بينها رفع سن الاستفادة من معاش التقاعد إلى سن 62 أو 65 سنة على غرار تجارب دولية أخرى.
وتوقع المتحدث لـ"عربي بوست"، أن يتقرر رفع وتوسيع المساهمات فضلاً عن وضع سقف لاستفادة محدودة، موضحاً أن الصندوق الوطني مؤسسة ائتمانية تسعى لتحقيق هامش ربح معين، وموضحاً أن الأزمة كانت بسبب اتساع رقعة المستفيدين الذين يتراوح عددهم ما بين 800 و1000 نائب برلماني على حساب انكماش أعداد المساهمين.
فيما ترى أبلاضي أن الحل يكمن في العمل على مراجعة القوانين وتقديم تعديلات تكون واضحة تضع حلاً جذرياً ومهماً لملف تقاعد البرلمانيين إسهاماً في محاربة كل أشكال الريع وهدر المال العام مع الاحتفاظ للمؤسسة التشريعية بالاحترام والتوقير.
واعتبرت المتحدثة لـ"عربي بوست"، أن تقاعد البرلمانيين بمثابة شجرة تخفي غابة كبيرة من الاختلالات التي تعرفها مؤسسات عمومية أخرى تتخبط في إشكالات مالية وإدارية تجعلها على حافة الانفجار.