كانت طفلة صغيرة عذبة، تقف على سطح بيتها تطلق طيارتها البيضاء تجعلها تحلق في عنان السماء، كانت تكتب في كراسة الإنشاء عن "حُب الوطن"، أصبحت الطفلة تداعب النسمة التي تمر في هبوبها على قريتها الصغيرة.
تتحدث الطفلة لأبويها عن مستقبلها الآتي، وتحلم وتخطط لأحلامها وترسم خريطة تسير بها آملة في تغيير وضع قريتها وبلدتها، تذهب لتلعب تحت أشجار الزيتون وتختبئ من صديقاتها بين شجيرات الخوخ، تتمتم بسرها أحياناً وكأنها تتحدث للأشجار "غداً سأكبر وسيكون لكم شأن آخر"، تذهب الطفلة مع أمها للأسواق يومياً يبيعون ويبتاعون ويبحثون عن قوت يومهم وباقي أسرتهم، بينما يبحث الأب مع ابنه الوحيد عن مقاصد لكسب العيش بمهنته تلك المتعبة.
مرت أيام طفولتها وكبرت وكبرت معها أحلامها وكادت أن تلامس الواقع، تعلمت الطفلة بمدارس قريتها وصارعت المواقف والأحداث حتى وصلت لأطراف مبتغاها، لكن هناك ما حال بينها وبين تحقيق ما تبقى من أحلامها المتناثرة، فسريعاً انقلب الحال، فقد دخل هؤلاء لقريتهم، داهموا منزلها الصغير، حطموا أثاثهم الهش، سمعتهم يتفوهون بأقزع وأفظع الألفاظ واصفين قريتها وسكانها بأوصاف استصعب على عقلها أن يستوعبه فما سمعت به إلا عندما كان يحكي لها جدها عن محتل غاصب وما فعلوه بهم إبان فترة طفولته، لم يأتوا هؤلاء لفتح القدس ولا لتكرار معركة حطين مرة أخرى، جاءوا هؤلاء ليمحوا ما تبقى بذاكرة الطفلة من قصص تيقنت أنها حبر على ورق، فالواقع يكذب ما تعلمته بمدارس قريتها التي رأتها تُدمر وتُقصف أمام عينيها.
لم تعد الأغنيات الوطنية ولا الشعارات الحماسية تجدي، فقد انفقأت خيوط الدم القاني من أرض وطنها حتى خطيب الجمعة يلقي خطبته باسم الملك الغالب، يرقى منبر المسجد بالسيف الذي يبقر أحشاء الحوامل، حتى الطيور أصبحت مشردة في السماء ليس لها أن تحط على الأرض لا يوجد ما تنزل لتستريح عليه أو لأجله، احترقت مزارع الزيتون والخوخ التي كانت تستمع لتمتمات الطفلة، قُصف منزلها الذي وقفت على سطحه لتطلق طائراتها البيضاء، مات أبوها وشقيقها الأصغر وماتت ذكرياتها تحت أنقاض كوخهم، حتى "عشتهم" الجريدية احترقت.
رفضت مقلتي الطفلة البكاء، وانتفض عقلها يستعيد الذكريات وأصوات هؤلاء المقنعين المسلحين تعلو ويكررون "أنتم إرهابيون.. أنتم لا أمان لكم"، وذكرياتها تمر أمامها فتارة تذكر ما يحكيه جدها لها، وأخرى تذكر ما فعله أبواها الذي ما زال جسده تحت أنقاض الكوخ المقصوف لتعود سيناء لحضن "الوطن" كما قالت لها أمها، وتتذكر إصراره على أن تُكمل تعليمها رغم ما يواجههم من تحديات، لكن لم يقصف المنزل ولم تُحرق مزارعهم ولم تُقتل حيواناتهم وحسب، بل قُصف ما تبقى من أمل لديها، وحُرقت أحلامها، وقُتل فكرها، فما عاشته من وقائع مريرة كذَّب ما قيل، حتى تلك الخيام المنسوجة من بقايا ملابسهم بتجمع اللاجئين شاهد على ذلك.
هنا أرض التين والزيتون، هنا البلد المحزون، هنا قصص الثكالى لا تنتهي، ومدامع الأيتام لا تجف، هنا صور تجمعت على لوحة دامية الخطوط مبتورة الأجزاء اسمها "سيناء"، حتى الذكريات تتساقط مع أوراق ديسمبر، أصوات "الزنانة" تسبق أصوات نوح الحمام، والقنابل ترغمنا على النوم .. النوم الأبدي، هنا الأسرى بلا عدد والقتلى لا يحصون، فقد بات الظلم عدل، والعدل أصبح شيئاً مجهولاً، حتى كراسات الإنشاء التي كُتب فيها مقصوصات في حب الوطن احترقت، وتلك الطائرات الورقية البيضاء أيضاً احترقت.
إنها بلاد الفيروز والحرية وأبطال السلام، سيناء الجريحة، ومدنها الحزينة تبصق على مَن خانها من أبنائها! وأقصد (سيناء التي تبصق على من خانها وليس شعبها)؛ لأن شعبها ما بين عدم الانسجام مع الواقع وضعف الولاء وما بين غـربة على أرض الوطن وقلة الانتماء.. ضاع الوطن وكثرت المحن وزاد الشجن وتاه الزمن وأصبحنا كسيناويين على المفارق لاجئين ولقطاء!
وأقول لأشباه الرجال: إن نصفكم رجال أعمال سياسة يعيشون على دماء أهل سيناء، والنصف الآخر منكم أصحاب دكاكين سياسية وشبيحة ثورة دعائية يعيشون على دماء أهل سيناء لقد نسيتم أن قرار سيناء ليس بيد أحد منكم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.