في ثقافتنا أربعة نصوص أساسية لا بد أن تقرأها بتمعّن وتعايشها حتى تتشرب بها، هذا بالطبع إذا أردت أن تكتب شيئاً يبقى! وهذه النصوص هي: الشعر الجاهلي، والقرآن، والحديث، يستوي في هذا الصحيح وغيره! ويلحق بهذه الثلاثة "الكتاب المقدس" أي (التوراة وملحقاتها، والأناجيل وملحقاتها).
وكما أن للحديث النبوي أصحاحاً ستة؛ أهمها "صحيحا البخاري ومسلم"، فإن للشعر الجاهلي أصحاحاً ستة أيضاً، بُنيت بطريقة مشابهة، وأشملها في رأيي "جمهرة أشعار العرب" لأبي يزيد القرشي، وبعدها أو قبلها تأتي "المفضليات" و"الأصمعيات" وكل الحماسات لأبي تمام والبحتري وغيرهما.
وبعد ذلك، اقرأ ما شئت من كتب التراث ولن تتوه. وأذكر أن حسين أحمد أمين كتب مرة مقالاً عن "أهم مائة كتاب في التراث العربي"، يمكن للمتعجل أن يهتدي بها، أما الفطاحل ممن لا تكفيهم مقالة فيمكن أن يجدوا ضالتهم في "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين.
أما "الكتاب المقدس"، فهو مجموعة النصوص الدينية والتاريخية التي يؤمن بها -جزئياً أو كلياً- اليهود والنصارى. وهو يتكون من عهدين، قديم وجديد. "العهد القديم" عدد أسفاره 39 سفراً ويشمل: التوراة (كتب موسى الخمسة التي تسمى أيضاً بكتب الشريعة وهي أسفار التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية).
وثمة فرقة من اليهود (السامريين) لا تقدِّس غير أسفار التوراة الخمسة. ثم تأتى الأسفار الملحقة بالتوراة (أسفار الأنبياء والكتابات) وقد بدأ جمعها فى القرن الخامس قبل الميلاد، وكان آخرها "سفر دانيال" الذي يرجع تاريخ كتابته على الأرجح إلى سنة (165 ق. م).
وبعد كل هذا وخارجه، توجد نصوص "الفلكلور الشعبي اليهودي" وهي تملأ التفسيرات الإسلامية القديمة وتندرج لدينا تحت ما يعرف باسم "الإسرائيليات".
أما "العهد الجديد"، فيحوي 27 سفراً، حيث يشمل الأناجيل الأربعة التى سجَّلت على نحو ما حياة يسوع المسيح وهي (متى ومرقس ولوقا ويوحنا). ثم تأتي الأسفار الملحقة بهذه الأناجيل وهي (أعمال الرسل والرسائل ورؤيا يوحنا اللاهوتي وهو غير يوحنا الحواري)، وهي أسفار تسجل جهاد تلاميذ المسيح ورسله (الحواريون) في الأمصار المختلفة.
وبعد كل هذا وخارجه أيضاً، توجد نصوص كثيرة لا تعترف بها الكنائس ويسمونها "أبوكريفا". وأنا للحقيقة أحبها بالدرجة نفسها، فكيف لي أن أرفض نصاً جميلاً مثل "إنجيل الطفولة العربي"؛ فقط لأنه لم يرق لبعض القساوسة!
وينبغي أن تقرأ هذه النصوص مباشرةً ولا تكتفي بقراءة حاجات عنها! فاقرأ كل هذا واقتله بحثاً، واستمتع به كأشكال أدبية ثم انسَه تماماً حين تكتب!
هذا طبعاً من بدهيات الكتابة الإبداعية، ولكن توجد مشكلة: أي ترجمة للكتاب المقدس يمكن أن نقتنيها وندرسها؟ عن نفسي، كنت في البداية أحب الترجمة البروتستانتية للكتاب المقدس (ترجمة فاندايك)، ومع الوقت كنت أميل إلى الترجمة اليسوعية (الكاثوليكية) أكثر، ولكنني الآن أكثر إعجاباً بترجمة الروم الأرثوذكس!
أعرف أن من عملوا في "ترجمة فاندايك" مثل إيلي سميث وبطرس البستاني قد أخذوا قراراً منذ البداية بألا يستخدموا العربية الفصحى في ترجمتهم؛ حتى لا تكون قرآنية الطابع!
وقد قرروا أيضاً ألا تكون الترجمة في مصر ولكن في بيئة شامية مثل تلك التي عاش فيها المسيح والعبرانيون، ولذا اختاروا منطقة لبنان؛ بسبب وجود طوائف مسيحية عديدة وبسبب تمركز الإرساليات التبشيرية، خاصة بعد أن فتح إبراهيم باشا لها الأبواب.
ولهذا كله، عمد مترجمو طبعة فاندايك إلى استخدام عامية شامية مفصّحة ومنغّمة؛ حتى يمكن إنشادها في الكنائس، وظني أن هذا كان أحد أسباب اختيار ناصيف اليازجي للعمل معهم؛ لأنه كان زجّالاً يتقن النظم بالعامية الشامية على البحور الشعرية القصيرة، وكان قد عمل فترة طويلة في صياغة الترانيم الكنسية.
وعندما صدرت هذه الترجمة كان لها تأثير كبير على الأدب العربي شعراً ونثراً. ولكن مشكلة هذه الترجمة الكبرى -في رأيي- أنها ظلمت الأسفار الشعرية الضاجّة بالشعر الملحمي، وظني أنهم أخفقوا في ترجمتها؛ لعدم نضج العامية وعجزها عن مطاولة النغمة الملحمية في العربية الفصحى.
المهم أن اليسوعيين (الكاثوليك) غاروا كعادتهم من البروتستانت فأتحفونا بترجمة عربية فصيحة وغير قرآنية، ويمكن أن تقول إنها عربية ما قبل القرآن! أي إنهم أنجزوا ما خاف منه البروتستانت.
وميزة هذه الترجمة، أنه يجري تنقيحها على فترات بينما تجمدت ترجمة فاندايك عند عام 1860 وكأنها وحي منزَّل! وقد تم تنقيح الترجمة اليسوعية عدة مرات، وكان أنسي الحاج مشاركاً في التنقيحات الأخيرة.
لكن، لا أدري هل راجعَ "سفر أرميا" تحديداً أم لا. هذا تحديداً هو سبب ما أكتبه الآن؛ لأنني كنت الآن أقرأ في هذا السفر عند فاندايك فوجدته -النبي أرميا- يقول: "يا ناقة خفيفة ضبعة في طرقها، يا أتان الفرا قد تعودت البرية، في شهوة نفسها تستنشق الريح عند ضبعها من يردّها؟".
والحقيقة، لم أفهم الصورة جيداً، فرجعت للترجمة اليسوعية فوجدته يقول فيها:
"أيتها الناقة الخفيفة الهائمة في طرقها، أتانٌ وحشية مُعاودةٌ البرية، في شدة شهوتها تستنشق الريح فمن يردّ ضبعتها؟".
ورأيت أن هذا أفضل قليلاً، ولكن هناك شيئاً ما ناقصاً يجعل العبارة قلقة وغير سلسة! نعم، الكلمات فصيحة، لكن التعقيد اللفظي والمعنوي يجعلها غير سلسة وغير منسابة!
ولم أجد بغيتي إلا في ترجمة الروم الأرثوذكس، حيث وجدت النبي أرميا ينطلق لسانه عربياً فصيحاً وهو يقول بسلاسة ووضوح: "يا ناقة خفيفة تتمايل في سيرها، يا أتاناً وحشية اعتادت القفار! من شدة شهوتها تستنشق الريح، فمن يكبح نزوتها؟".
عندها قلت: الله! هذا هو النبي أرميا بالفعل! رجل الكلمة القوية الذي جاء من عزلته القاسية ليجعل كلمته ناراً تحرق الشعب المتمرد، فلما أهانوه وسجنوه هجرهم وعاد لعزلته مرة أخرى ومات مجهولاً دون أن يُعرف له قبر.
الحقيقة، فرحت بكلمات الترجمة الأخيرة، ترجمة الروم الأرثوذكس، وتذكرت قصائد الشعر الجاهلي وفقرة الرحلة أو الارتحال التي كانت تدور في الغالب حول وصف الناقة بالأوصاف نفسها التي ذكرها النبي أرميا!
فهل عاش النبي أرميا بعض أيام عزلته في جزيرة العرب؟ هل كان يعرف شعراء جاهليين أو كانوا هم يعرفونه؟ وهل قال هذا كشعر مقفَّى موزون فجاء كتاب التوراة ومن بعده المترجمون فأفسدوا شعره؟!
لو كنت شاعراً لأعدت ترجمة هذا السفر أو بعضه وجعلته في شكل معلقة جاهلية، إذن لجاءت نادرة المثال وأقرب إلى روح النبي أرميا كما أفهمها!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.