كانت مقولة والدي -رحمه الله- الشهيرة "قُدْ ببطء فإننى على عُجالة"! من أهم المفاهيم التي كنت -وما زلت- أعيها وفشلت -وما زلت أفشل- في تطبيقها.. (ففي العجلة الندامة!).
إحدى أهم صفاتنا أننا نتعجل في كل شيء من الغذاء حتى المغذي! فمعظمنا يأكل على عجالة؛ لينهي (برنامج) الأكل هذا، ومن أشهر مقولاتنا (أعطونا لقمة سريعة)، ولما تكون سريعة، فأنت غالباً ما تسيء إلى هضمك وتفقد نفسك متعة الاستمتاع بلذة الطعام والشراب حتى… وتزيد من وزنك.. وغيرها من مشاكل طبية كثيرة.
والتعجل في المغاذي أننا نتعجل في استخلاص مفاهيم حَياتِيَّة متكاملة وأحكام شخصية على قضايا وناس بتعجل… من زاوية حادة، فندقق النظر بإصرار على اكتشاف أمر قد يبدو على ما هو عليه، ولكنه يحتمل الكثير من الجوانب المخبأة.
أعتقد أن التعجل يدمر الوقت، و(يلخم) العقل، لي صديقة من ذوات الحكمة والرشد مبدأها في الحياة: الشيء الواحد تلو الآخر، فكانت في وقت امتحاناتها تلغي أي شيء كان وأي اتصال بأي شخص مهما كان؛ لتنجز ما بين يديها في الوقت المقرر له… ثم إذا جلسنا نتسامر ألغت كل اتصالاتها وكل اهتمام خارجي دون جدران صوتنا! فكنت لا أنشدّ أبداً لسياستها تلك، ولكنها أثبتت نجاحها بقوة…. ثقافة الشيء الواحد في الوقت المعين تلو الآخر هذه أثبتت فاعليتها.
لا أعتقد أني إبالغ إن قلت إن معظمنا يتعجل في أداء فروض الولاء والطاعة للخالق… فأول شيء بديهي تقوله وأنت متجه لنسكك (5 دقايق بس.. أصلي وأرجع)! ولماذا ندفع ديوننا لله في 5 دقائق لا غير! وإن كانت هي خمساً أو أقل فلم نهلل بها! فلنخفها!
أما بالنسبة لاتخاذ قرار الشراء إن كان للملابس أو المزارع أو المركبات الفضائية، فالأمر عندنا سيان. فإذا توافر المال تكسرت جميع الحواجز الأُخْرَى.. عند الغرب، المال ليس العقبة الأولي للشراء؛ بل القرار في شراء تلك الساعة أو منزل الأحلام هو الفيصل.. والقرار غالباً لديهم لا يكون فردياً ولا يكون عمومياً؛ بل هو قرار العائلة وبحوث عملية تعقب وتسبق مراحل النقاش.. نحن غالباً غالباً ما نتنمر عليهم!
قرارات اتخاذ شريك العمر هذه، لا أدري أأكتب عنها أم أدعها ترقد في جُب يوسف، فقرار اتخاذ الشريك هذا عادةً ما يكون مشحوناً بدوافع لا تمت إلى شخصك الكريم بصلة… فغالباً ما يكون الطرف الآخر مناسباً شكلاً (مجتمعياً) أو مضموناً بالنسبة لجميع أفراد عائلتك وعائلة الوالد الكريم والوالدة الموقرة، أو قد يكون الاختيار بناء على رد فعل، أو بِنِيّة إنجاب الأطفال؛ كي لا يسرق العمر الثمر.
فقد شهدت الكثير من الزيجات التى يوم مولد الفرح تحس (بالورطة) تنتاب أحد الطرفين، أو ربما الاثنين على حد (عدم المبالغة). و التعجل في اختيار المسكن وفستان الزواج وطريقة اهتمام العروس بنفسها تكون في أغلب الأحايين خاطئة؛ لأنها على عجالة للوصول للهدف المنشود ألا وهو الجمال الفاتن.
فتتناول العروس العقاقير المذيبة للدهون والكريمات المبيضة للبشرة والعلاجات الأسرع للتقشير والتمليس والتكبير والتصغير، فنجد أجمل نتيجة يوم زفافها، وفي الغالب ينصدم الزوج ومَن دونه بالآثار الجانبية لذلك أو بالمنظر المغاير بعد الزواج، فتتكون العلقة وتتداخل الخيبات بعد اكتشاف الطرفين اختلافات مظهرية وجوهرية قاتلة من الصعب التعايش معها. ولا تكون قداسة الزواج هي الباقية على تلاحمهما أبد الدهر، ولكنه الجنين الذي تكوّن على عجالة.
لو صبر القاتل على المقتول لما كانت هنالك قضية من الأساس!
الشئ المبشر أن هذا السلوك يمكن أن يتغير (بالإصرار).. نحن أرقّ مما نتصور، فقد تقسم أحاسيس وقتية ظهر الدواخل … تتولد من أغنية شجنية تحرّك مشاعر الأسى على نفسك أو غيرها من أحاسيس الشجن التي نترجمها بميزان الموروث النفسي كأسى وحزن و خيبة، فننصاع لبضع كلمات ولحن، ونصدق أنا ضحايا الزمان الَّذي غدر بنا! والزمان لا أصل له من القدرة.
الكثير منا بعد الَّذي نعايشه من كوارث اقتصادية تعم العالم برمته، أصبح لا يدع ذلك الإعلان الشَهِيَّ يقوده لصرف جميع ما في الجيب لشراء ما في الغيب والَّذي سنندم عليه عقب أول (قضْمة) ونظْرة لذلك (الكيس) الضخم الَّذي ما كان في الحسبان. وأصبح غالبنا لا يتعجل بالتصديق رغم ثقافاتنا (الصديقية) التي عادة ما ننهج! ومن باب أولى ألا نتعجل في أحكامنا على المحجبة والمقنَّعة واللاذع فاهها، والمنمق سردها، والمقسَّم جيدها، والمسدول ديسها، والمكتوب عمرها، والناصع لونها، فقد يكون الحجاب نفاقاً وإسدال الديس من نفْس طاهرة، ولذعة الكلام من وراء كسر.
وألا أنحكم على (راعي) السيارة ولا (راكب) الطيارة ولا (صاحب) العمارة ولا حارسها… ما أدرانا مَن الأثرى، من الأغنى، من الأجدى، من الأبقى، هل صاحب الشهادة هو الأفهم؟ أم صاحب العلم هو الأعلم؟ أم صاحب الحكمة هو الأحكم؟ (قد يكون هذا من فضل جوجل) وما أدراك… لعل الله يحدث بعد ذلك خبراً.
فلنناظر الرسم ولنترك الكلم! فالملامح تفضح والملامح تقدح بما يكن ولكنها تفعل بعد حين… فلنمهل الملامح لتفضي بجرابها، ثم نأتي للفعل والذي هو الفيصل في كل شيء… الأفعال إما تتماثل ونظيراتها وإما تتنافر وما دون ذلك… أما الفعل الخبيث، فيكون ساكناً سكون بحر لا حياة سَطْحِيَّة به على الإطلاق… ولكن، ما دون قاعة تكمن حيوات لا تنضب فلا تتحرك إلا بمرور السفن الثقال والتي هي أخلاقك النبيلة التي تثقل على منافراتها من الشخص الآخر إن كان من (البرخلقيين)، فينقشع ظلام الشخصية التي أمامك انقشاع الكلمات عن أهل العلم.
التمهل هو الصفة الراعية للنجاح، والتمهل من أرقى الأسلحة التي يهابها المعتدي عليك (لا قدر الله ذلك)؛ لأن ترقُّبه رد فعلك هو السلاح الأقوى لك ضده. فدائماً الصفات الدنيوية المشتقة من الذات الإلهية هي الأسلم، فالإمهال والتمهل هي صفة الرب، فالإمهال فعل حكمة في الشدة واللين والغفران والصفح والتأدب والتعقل.
فلنتمهل بتروٍّ، ولننقَدْ وراء السلوك بإصرار متجدّد، فكلما تعجلنا نعد أنفسنا أنها الأخيرة… فنسلك مسالك العارفين بالتمهل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.