لم يكن الهجوم الذي أودى، الإثنين 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017، بحياة الصحفية المالطية دافني كاورانا غاليزيا هو الأول الذي تتعرض له في حياتها، فمنذ أواخر التسعينات، تعرَّضت المرأة المسؤولة عن كشف "وثائق بنما"، لمحاولات اغتيال تحدّثت عنها عائلتها لصحيفة واشنطن بوست الأميركية.
المحاولة الأولى: 1995
وكان الهجوم الأول الذي تعرَّضت له كاروانا في عام 1995، عندما تم سكب البنزين على الباب الأمامي لمنزلها، ثم أُضرمت فيه النيران. في ذلك الوقت، أخبرت دافني أطفالها الثلاثة أن الحريق كان بسبب بعض الشموع التي نسيتها في الخارج لفترة طويلة جداً. ولكن في قرارة نفسها، كانت دافني تعلم أنها قد تعرَّضت لحادث انتقامي.
وبعد هذه الحادثة بفترة وجيزة، قُتل كلب دافني الضخم وتُرك أمام منزلها مذبوحاً.
وكانت حينها كاروانا غاليزيا -وهي كاتبة عمود في الإصلاح السياسي- قد كتبت افتتاحية لصحيفة صنداي تايمز في مالطا، والتي تعتبر أكبر صحيفة هناك، تدعو فيها قائد القوات المسلحة في مالطا إلى الاستقالة لارتباط أحد أبنائه بالاتجار بالمخدرات.
خوفاً على سلامة عائلتها، أخذت أطفالها خارج المدرسة وبقيت لعدة أسابيع بعيداً عن منزلها في بيدنيجا، وهي بلدة صغيرة تقع على تلال أحد أصغر البلدان في أوروبا.
المحاولة الثانية: 2006
لم يحدث أي تطورات أكثر في ذلك الوقت. ولكن في عام 2006، وبعد وقت قصير من نشرها مقالاً تنتقد فيه الجماعات النازية الجديدة التي برزت في مالطا، تم وضع كومة من الإطارات وراء منزلها ثم أشعلت فيها النيران.
وقال ابنها، ماثيو كاروانا غاليزيا، في مقابلة هاتفية: "كان أخي عائداً للمنزل ليلاً في ذلك الوقت عندما لاحظ هذا الحريق". وأضاف ماثيو "لو لم يلاحظ أخي هذا الحريق في الوقت المناسب، ربما كُنّا قد احترقنا جميعاً".
أما الإثنين، فتوفيت كاروانا غاليزيا في حادث مأساوي عن عمر يناهز الـ53 عاماً، بعد أن انفجرت سيارتها البيجو 108 بالقرب من منزلها في بيدنيجا. ووصفت عائلة كاروانا الحادث بأنه كان حلقة من سلسلة متصاعدة من الهجمات الانتقامية نتيجة للتقارير المستقلة التي كانت دافني تكتبها عن الوضع السياسي في مالطة.
وتقوم شرطة مالطا بالتحقيق في القضية بمساعدة مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، بناء على طلب من رئيس وزراء مالطا جوزيف مُسكات. وقالت لجنة حماية الصحفيين إنه باستهداف كاروانا غاليزيا، تكون الصحفية الـ28 التي تُقتل هذا العام بسبب عملها.
تعتبر كاروانا غاليزيا إحدى الصحفيات المعنية بنشر الفضائح السياسية. إذ قد بدأت حياتها المهنية في وقتٍ مبكر كمحللة سياسية تتميز بتعليقاتها اللاذعة، ومنذ عام 2004 تولت كاروانا تحرير مجلة Taste & Flair، وهي مجلة معنية بنمط الحياة تُنشر من قبل صحيفة مستقلة بمالطا.
وكانت وظيفتها اليومية هي كتابة وتحرير بعض القصص في المجلة، خاصة المقالات حول المطبخ المالطي. وفي وقت فراغها، كانت تنشر بعض المقالات في مدونة تدعى "رونينغ كومنتاري"، وهو موقع إلكتروني جعلها من أبرز مراسلي التحقيقات في مالطا، كما وصفتها مجلة بوليتيكو في تقرير نُشر مؤخراً، "امرأة واحدة تقوم بما يقوم به ويكيليكس".
في بعض الأيام، استقطب الموقع أكثر من 400 ألف قارئ، وهو رقم أكبر بكثير من مجموع جمهور الصحف الرئيسية في مالطا، بل ويضاهي تقريباً عدد سكان البلاد.
ودارت مشاركاتها بين التعليق على معاملة البلد للمرأة "في القرن 19" إلى بعض الموضوعات الأكثر إثارة، بما في ذلك التقرير التي نشرته عن زيارة أحد الوزراء في الحكومة المالطية لأحد بيوت الدعارة في ألمانيا. لكن الوزير نفى هذه القصة، وتلقت كاروانا غاليزيا، في شهر فبراير/ شباط، مذكرة بتجميد حساباتها المصرفية.
تهديدات بالقتل والإطاحة بمنصب ابنها
وقد دارت أعمالها الأخيرة حول قضية أوراق بنما، وهو التسريب الذي وقع في عام 2016، وشمل أكثر من 11 مليون وثيقة، كشفت علاقة العديد من المسؤولين الحكوميين في جميع أنحاء العالم بشركات غسيل أموال سرية.
ونالت أعمال كاروانا غاليزيا بشكل مستقل جائزة بوليتزر عن جهود التحقيق التي قامت بها بقيادة الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين في واشنطن (ICIJ)، وبالشراكة مع صحيفة سودويتشه تسايتونغ الألمانية وأكثر من 100 منظمة إعلامية أخرى. (يعمل ابنها ماثيو كمطور برمجيات وصحفي متخصص في تحليل البيانات في الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين (ICIJ)).
ونشرت دافني من خلال بعض المقالات في المدونة، استناداً إلى وثائق من أوراق بنما، علاقة حكومة مسكات -بما في ذلك زوجته ورئيس الأركان ووزير الطاقة- بالعديد من الشركات الوهمية. وزعمت أن المسؤولين الحكوميين كانوا يتلقون مكافآت مالية غير مشروعة من قبل حكومة أذربيجان، وهي دولة كانت تابعة للاتحاد السوفيتي سابقاً.
ونفى المسؤولون هذه الاتهامات التي وُجهت إليهم، وسرعان ما واجه كاروانا غاليزيا طوفان من التهديدات بالقتل. بالإضافة إلى تسمم كلبها وتعرضه لمحاولة القتل في وقت سابق من هذا العام. وقال ماثيو كاروانا غاليزيا إن أحد أبنائها وهو دبلوماسي مالطي استُدعى من منصبه في نيودلهى بدون تفسير. وأضاف ماثيو أن والدته -وقبل وفاتها- كانت تخطط لمقاضاة الحكومة، بحجة أن الإطاحة الدبلوماسية كان المقصود منها الانتقام منها لنشرها تلك التقارير.
وقالت مسكات بعد وفاة كاروانا غاليزيا: "الجميع يعرف أن كاروانا غاليزيا كانت ناقدة قاسية لي بصورة شخصية وسياسية، ولكن لا يمكن لأي أحد أن يبرر هذا العمل الهمجي بأي شكل من الأشكال".
وسيطرت حالة من الفوضى على حكومة مالطا منذ أن بدأت كاروانا غاليزيا بنشر ادعاءاتها، وذلك بالتزامن مع الانتخابات التي تم إجراؤها، في يونيو/حزيران، في محاولة لتثبيت نفوذ مسكات في السلطة لمدة أربع سنوات تالية. وقبل الانتخابات بقليل، كتب كين ميفسود بونيسى وهو مستشار في المفوضية الأوروبية أن مالطا تواجه "انهياراً حقيقياً لسيادة القانون".
وكتب ماثيو كاروانا غاليزيا في مقال نشره على موقع فيسبوك، الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2017، أن "والدته اغتيلت مثلها مثل العديد من الصحفيين لأنها حاولت الحيلولة بين سيادة القانون وأولئك الذين يسعون لانتهاكه". كما ألقى باللوم من خلال منشوره على "عدم الكفاءة والإهمال" من الشرطة والحكومة التي تسبب في مصرعها.
وقال: "هذا ما يحدث عندما تكون مؤسسات الدولة عاجزة عن العمل". وتابع: "عادة ما يكون الشخص الأخير الذي يظل واقفاً مثابراً داعماً للحق هو الصحفي مما يجعله أول شخص يُترك ليموت".
وولدت دافني آن فيلا في منتجع سليما في السادس والعشرين من شهر أغسطس/آب لعام 1964. وكان والدها يمتلك شركة أعمال متخصصة في استيراد وتركيب المصاعد، في حين كانت والدتها ربة منزل. وتزوجت بيتر كاروانا غاليزيا في عام 1985.
بعد عامين من زواجها، انضمت كاروانا غاليزيا إلى صحيفة التايمز بمالطا، حيث عملت كمراسلة ثم كاتبة عمود، قبل أن تنتقل إلى جريدة مالطا المستقلة كمحرر مشارك في عام 1992. وطوَّرت دافني من خلال كتابتها ذوقاً مميزاً لتلك الكتابة والنقد اللاذع، وهو الذوق التي نقلته إلى مدونتها.
حصلت دافني على درجة البكالوريوس في علم الآثار من جامعة مالطا، في عام 1997.
ووصف آخر تعليق نشرته كاروانا غاليزيا، وهو التعليق الذي نُشر قبل نصف ساعة من مصرعها، شعورها بالإحباط المتزايد بسبب عدم المساءلة القانونية عن الفساد الحكومي. وقال رئيس هيئة الأركان في الحكومة كيث شمبري، إنه لم يتمكن من الرد على اتهامات الفساد بسبب "حالته الطبية".
وكتبت في هذا المنشور: "هناك العديد من المحتالين في كل مكان تولّي نظرك إليه الآن"، وأضافت: "إن الوضع يائس جداً".