بعد أن سيطرت القوات العراقية على مدينة كركوك الغنية بالنفط وطردت البشمركة منها، يبذل قادة الجيش الأميركي قصارى جهدهم من أجل وقف النزاع المتصاعد بين القوتين اللتين يتولى تسليحهما وتدريبهما، فيما يبدو أن هناك ثلاثة أو أربعة مواقف أميركية في الأزمة وليس موقف واحد.
سعى البنتاغون إلى التخفيف من حدة المصادمات بين الطرفين بعد أن سيطرت القوات الموالية للحكومة المركزية في بغداد على معظم أنحاء المدينة، الإثنين 16 أكتوبر/تشرين الأول 2017، وتخلت القوات الكردية عن مواقعها بعد انسحابها إلى حقول النفط المجاورة.
وقد أظهرت لقطات فيديو سيلاً من اللاجئين الأكراد وهم يغادرون كركوك في سياراتهم، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
جاءت تلك الخطوة من جانب بغداد بعد ثلاثة أسابيع من إجراء الاستفتاء على استقلال كردستان الذي تضمن المدينة النفطية المتنوعة عرقياً – وهي خطوة مثيرة للنزاع اعتبرتها بغداد وسيلة لضم المدينة.
ضربة ساحقة
وقد أدى انسحاب قوات البيشمركة إلى منح بغداد مكاسب عسكرية وسياسية حاسمة وتوجيه ضربة ساحقة إلى الرئيس الفعلي للإقليم الكردي مسعود بارزاني، الذي خاطر بالكثير عند إجراء الاستفتاء الذي استغله لتوطيد دعائم الحكم الذاتي الكردستاني.
ووصف المتحدث الرسمي باسم البنتاغون الكولونيل روبرت ماننج عملية السيطرة على أرجاء المدينة باعتبارها "تحركات منسقة وليست اعتداءات"، وذكر أن تبادل إطلاق النار الذي أدى إلى العديد من الخسائر لم يكن سوى "حالة فردية".
وقال ماننج مشجعاً الطرفين على التركيز على الخطر المشترك لتنظيم داعش: "لم نر معدلات العنف الذي تشير إليه بعض التقارير الإعلامية. وهذا الأمر غير مفيد بالتأكيد ونحن نحث كلا الطرفين مجدداً على وقف الاقتتال".
وأضاف أن القادة الأميركيين في المنطقة يسعون للوساطة بين الطرفين المتنازعين في المدينة.
وقال ماننج: "يشارك قادة التحالف على كافة المستويات مع نظرائهم بقوات الأمن العراقية في تشجيع الحوار والحد من التصعيد العسكري".
حياد ترامب وتأييد السفارة
وقال الرئيس الأميركي دونالد ترامب متحدثاً من البيت الأبيض: "لا تروق لنا حقيقة المصادمات بين الطرفين ونحن لا ننحاز لأحد الطرفين ضد الطرف الآخر".
ومع ذلك، أعلنت السفارة الأميركية في بغداد عن دعمها لإعادة تأكيد سيادة العراق في كركوك. وذكر البيان الصادر عن السفارة: "نحن ندعم إعادة التأكيد السلمي على السلطة الفيدرالية بما يتفق مع الدستور العراقي في كافة المناطق المتنازع عليها".
وتعد المواجهة مع القوات الكردية تهديداً خطيراً للجهود الأميركية الرامية إلى تركيز كافة مجهودات حلفائها تجاه تنظيم داعش، وهي الجهود التي تعتبر القوات الكردية من خلالها بمثابة الشريك الأكثر فعالية لواشنطن.
ماكين وإيران
هناك مخاوف أيضاً في واشنطن حول الدور الذي تلعبه إيران في التحرك نحو كركوك. فقد تقدم الجيش العراقي جنباً إلى جنب مع وحدات الحشد الشعبي الشيعية، التي تدعمها إيران.
وذكر السيناتور جون ماكين في بيان كتابي: "تقلقني التقارير الإعلامية التي تشير إلى الدور الذي تضطلع به القوات الإيرانية والقوات التي تدعمها طهران في ذلك الاعتداء. وينبغي أن تتخذ القوات العراقية خطوات فورية للتخفيف من حدة تصعيد هذا الوضع الهش من خلال وقف تقدم القوات نحو المدينة".
"وفرت الولايات المتحدة المعدات والتدريب إلى حكومة العراق لمحاربة تنظيم داعش وتأمين نفسها من المخاطر الخارجية – وليس للاعتداء على عناصر إحدى حكوماتها الإقليمية التي تعد شريكاً طويل الأجل للولايات المتحدة".
وذكر باسم البنتاغون روبرت ماننج أن الحكومة العراقية وقوات الأمن قد أكدت للبنتاغون أنها سوف تستخدم المعدات الأميركية "وفقاً للقوانين الأميركية واتفاقاتنا الثنائية".
وأضاف ماننج: "لو تلقينا تقارير بإساءة استخدام المعدات الأميركية أو تسليمها إلى مستخدمين غير مصرح لهم، سوف نطالب الحكومة العراقية بالتعاون مع السفارة الأميركية للتعامل مع أي قضايا مؤكدة – حتى أعلى المستويات، إذا لزم الأمر".
وذكر أيضاً أنه لم يكن على دراية بأي تورط إيراني مباشر في عملية كركوك، رغم التقارير التي تشير إلى قيام قائد قوات القدس بالحرس الثوري الإسلامي الجنرال قاسم سليماني – ومسؤولي وحدات الحشد الشعبي الموالين للمرشد الأعلى لإيران – بتوجيه وإدارة تلك التحركات.
إسرائيل
وأشاد علي أكبر ولاياتي، كبير مستشاري المرشد الأعلى لشؤون السياسة الخارجية، بخطوة الجيش العراقي للسيطرة على كركوك، واعتبرها ضربة لطموحات إسرائيل الاستراتيجية.
ونقلت وكالة تسنيم الإخبارية عن ولاياتي قوله: "من خلال هزيمة الأكراد في كركوك، تم إحباط مؤامرة بارزاني لتهديد أمن الإقليم. فقد كان هدف بارزاني وإسرائيل يتمثل في السيطرة على حقول النفط بكركوك لخدمة مصالح إسرائيل. فهم يرفعون العلم الإسرائيلي بالإقليم الكردي؛ وذلك يعني أنه في حالة حصول الأكراد على الاستقلال عن العراق، سوف نتقاسم الحدود مع إسرائيل".
حاكم كركوك يختبئ
وقد لجأ نجم الدين كريم، حاكم كركوك إلى أحد المخابئ، بحسب ما ذكره ديفيد فيليبس، المسؤول السابق بوزارة الخارجية الأميركية، الذي تحدث مع كريم مساء الأحد حين وقع التحرك.
وأضاف فيليبس، الذي يشغل حالياً منصب مدير برنامج بناء السلام والحقوق بجامعة كولومبيا: "كان ذلك هجوماً من قبل الميليشيات الشيعية تحت قيادة أحد القادة الإيرانيين. ووحدات الحشد الشعبي من صنع إيران بالكامل. وإيران هي التي اضطلعت بهذه العملية ضد كردستان".
وأشار فيليبس إلى أن المبعوث الأميركي الخاص للتحالف المناهض لتنظيم داعش بريت ماكجورك كان في بغداد خلال عطلة نهاية الأسبوع لإجراء مباحثات مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي.
وقال: "أود التعرف على ما تحدث هو والعبادي بشأنه. فالتاريخ الطويل للعلاقات مع الأكراد لا يهم حينما يتعلق الأمر بوقت الحرب".
وذكر العبادي في بيان له يوم الإثنين: "لقد عملنا من أجل الوفاء بواجباتنا الدستورية بهدف بسط السلطة الفيدرالية وفرض الأمن وحماية الثروة القومية في هذه المدينة، التي نود أن تظل مدينة للتعايش السلمي بين كل العراقيين".
وسيطر الأكراد على مدينة كركوك في صيف 2014، بعد أن فرت القوات العراقية من مواقعها في أعقاب اعتداء تنظيم داعش على مدينة الموصل المجاورة. وفي ذلك الحين، هزمت وحدات البيشمركة مقاتلي داعش من أجل السيطرة على حقول النفط.
ومنذ ذلك الحين، تحاول أربيل تعزيز مطالبتها باستعادة المدينة، التي تضم الأكراد والعرب والتركمان وتعد محور إنتاج النفط بالإقليم. وقد مد المسؤولون الأكراد خط أنابيب من كركوك إلى تركيا يتم من خلاله بيع النفط الخام – وسط معارضة مريرة من جانب بغداد.
تنافس كردي
ويؤكد انسحاب القوات الكردية على المنافسة المتعمقة بين التكتلين السياسيين في كردستان العراقية التي تتصدر عناوين الأخبار خلال الأيام الثلاثة الماضية، حيث قامت القوات العراقية والوحدات الشيعية المتحالفة بطرد القوات الكردية من جنوب المدينة.
اعتبر بعض قادة تكتل الاتحاد الوطني لكردستان، ومقره بمدينة السليمانية – ثاني أكبر مدينة بالإقليم – الاستفتاء بمثابة خطوة حزبية من جانب بارزاني لدعم سيطرته الإقليمية. وأصر زعيم الإقليم على أن الاقتراع يمثل لحظة فاصلة في تاريخ كردستان، التي يأمل أن يساعد على القضاء على الشقاق القائم منذ عهد طويل.
ومع ذلك، كانت الانقسامات صارخة، حيث استسلمت وحدات البيشمركة، ما أحدث صدمة قوية بين أفراد كلا طرفي النزاع. وانتقدت القيادة العامة لوحدات البيشمركة الاتحاد الوطني لكردستان لما وصفته باعتباره "خيانة تاريخية كبرى".
وعلى النقيض من ذلك، وصل القادة العراقيون، ومن بينهم أبو المهدي المهندس وحيدر العامري، وكلاهما من كبار قادة وحدات الحشد الشعبي التي تتألف في أغلبها من القوات الشيعية، إلى كركوك في المساء لحضور مراسم رفع العلم العراقي على مكتب الحاكم.
حظي قرار إجراء الاستفتاء بانتقادات كبيرة من قبل إيران وتركيا وبغداد والولايات المتحدة. وقامت بغداد وطهران بإغلاق الطرق المؤدية إلى شمال كردستان على مدار الأسبوعين الماضيين وإغلاق المجال الجوي وتعليق حركة التجارة بصفة جزئية.
هاجمت الوحدات الشيعية الضواحي الجنوبية لكركوك في وقت مبكر من صباح الإثنين وشرع المدنيون في مغادرة المدينة.
وقال عزيز أحمد، مساعد مدير أمن أربيل مسرور بارزاني إن مسؤولي الأمن المنافسين بتكتل الاتحاد الوطني لكردستان "قد خانوا كركوك وشعب كردستان وتنازلوا عن المدينة لصالح إيران وانسحبوا من خطوط المواجهة دون قتال".
وتظل قوات البيشمركة الموالية لبارزاني تسيطر على حقلي نفط يقعان شمالي كركوك وتقول أنها لا تعتزم التنازل عن هذين الحقلين. ومع ذلك، يبدو أنه لا يوجد فرصة أمام القوات الكردية المتبقية للمقاومة إذا ما قررت الحكومة العراقية المركزية مهاجمتها.