بدأت العاصفة عند الثامنة والربع تقريباً.
رغم بدايته العادية جداً على وسط مدينة العريش المصرية لم يمر صباح أمس الإثنين مثل أي صباح عادي: الأطفال ذهبوا إلى مدارسهم، والموظفون إلى مصالحهم، والجو هادئ، عندما دوى انهمار الدفعة الأولى من إطلاق الرصاص في قلب المدينة، في وسطها المدجج بالنقاط الحصينة ورجال الأمن.
الهجوم الذي نفذه مسلحون ملثمون صباح الإثنين على العريش هو الثاني الذي يستهدف وسط المدينة، لكنه يفوق سابقه الذي وقع في بداية العام في كل شيء: الحجم، ومدة السيطرة على المنطقة، والنجاح في تحقيق الأهداف المادية والمعنوية، ثم الانسحاب من دون خسائر في الأرواح.
"عربي بوست" يقدم صورة ما جرى على لسان شهود العيان من أبناء المدينة، وأحدهم كان داخل البنك الذي فجروا خزينته.
المشاهد الأولى: صوت الرصاص يأتي من قريب جداً
تدفق مجموعة من الملثمين بعربات النقل الرباعي إلى عدة نقاط بسرعة البرق، الكنيسة، والبنك، وسوق الصاغة، كما ورد في شهادة مصطفى سينجر، الصحفي المقيم في شمال سيناء.
تبادل إطلاق النار استمر عدة دقائق مرت كالدهر، أمام كنيسة مار جرجس في شارع 23 يوليو، وانتشر الملثمون بشكل واسع في الشوارع الخلفية، ثم بدأت اشتباكات متزامنة عند الثلاثة أكمنة القريبة.
ويوجد بهذه المنطقة ثلاثة كمائن وهي كمين الكنيسة، وكمين مجلس المدينة بوسط البلد وكمين شارع الصاغة أحد أكبر الشوارع في وسط العريش.
وقال أحد سكان المدينة لـ عربي بوست إن الاشتباكات تواصلت لنحو ساعة إلا ربعاً تقريباً، وتوقفت بعد التاسعة صباحاً تقريباً. "انقسم الملثمون إلى مجموعات، كل شارع خلفي كان به سيارة نقل تقل ما بين 12 إلى 15 مسلحاً ملثمين ويحملون أسلحة خفيفة، وأسلحة أر بي جي". أصبح من الواضح أن الملثمين داهموا المدينة الناعسة مبكراً، وفي مرمى أسلحتهم أربعة أهداف هذه المرة.
من هنا بدأت العاصفة: كنيسة مار جرجس
بدأت الأحداث بالهجوم على حرس كنيسة مار جرجس وسط المدينة، لكن الهجوم لم يستمر سوى دقائق، ومن غير الواضح تعرض أفراد الأمن لإصابات. ويبدو أن الملثمين بدأوا من الكنيسة لإيهام السلطات بأنه هجوم جديد على الأقباط، قبل أن يتحولوا إلى هدفهم الأساسي، وهو البنك القريب.
غزوة البنك: كانوا يعرفون بوصول الأموال
فرع البنك الأهلي في هذا الشارع يسمى فرع رفح، واستهدفه الملثمون بهدف الحصول على ما فيه من أموال.
وروى شاهد عيان كان متواجداً بالبنك وقت اقتحامه لـ"عربي بوست" الدقائق الصعبة التي مرت عليهم أثناء اقتحام المسلحين للبنك، يقول: فوجئنا بإطلاق رصاص خارج البنك ثم دخلت مجموعة حوالي 5 أو 7 أشخاص إلى ساحة البنك حاملين الأسلحة فثارت حالة من الهلع بين المتواجدين، وطلبوا منا أن نستلقي على الأرض، وأن يضع كل واحد منا وجهه في الأرض، وهددوا من سيرفع رأسه بأنه سيُطلق عليه النار فوراً.
بحسب الشاهد إن تواجدهم في البنك استغرق حوالي من 15 إلى 20 دقيقة، وبعد انسحابهم اكتشفنا مقتل ثلاثة من أفراد الشرطة المكلفين بحراسة البنك من الخارج، ورتبهم "أمين شرطة ومساعد شرطة ورقيب شرطة"، بالإضافة إلى مقتل فرد أمن مدني تابع لإحدى شركات الأمن الخاصة، وسيدة مسنة تصادف مرورها من موقع الأحداث.
ويقول شاهد عيان أنه شاهد بنفسه خروج المسلحين من البنك حاملين شنطاً يبدو أن بها أموالاً بالإضافة إلى اختطاف فرد أمن مدني (تابع لنفس شركة الأمن الخاصة المسئولة عن تأمين البنك) وتم تقييده بالحبال وتغطية رأسه ووضعه في سيارة وانطلقوا بها.
وأصدرت وزارة الداخلية المصرية بياناً مقتضباً حول مقتل ثلاثة من رجال الشرطة أثناء تصديهم لعملية إرهابية على فرع للبنك الأهلي (بنك حكومي) بوسط العريش ولم تكشف عن تفاصيل ما حدث في بيانها.
الصحفي أحمد عبد الستار المقيم في العريش، في روايته لـ"عربي بوست" إنه كان في مكان يستطيع منه رؤية المسلحين الملثمين بعد الاستيلاء على أموال البنك. وأضاف رأيتهم تجمعوا عند سيارتين "ربع نقل وملاكي" وتأكدوا بأن عددهم كامل وأنه لا يوجد مصابون بينهم، وكانوا يتحدثون بلهجة بدوية وبعضهم كان يرتدي ملابس عسكرية وبعضهم كان يرتدي ملابس رياضية "ترينج"، وأضاف بعدما تأكدوا من عددهم استقلوا السيارات ومعهم الشنط التي بها الأموال ثم تحركوا ناحية شارع أسيوط الموازي لشارع 23 يوليو أيضاً، وسمعنا إطلاق رصاص يبدو أنهم اشتبكوا مع دورية للشرطة أو دعم كان في طريقه لشارع 23 يوليو ويمكن أن يكونوا أطلقوا النار في الهواء لترهيب المواطنين.
ويضيف: من شارع أسيوط دخلوا إلى شوارع تؤدي إلى جنوب العريش حيث المناطق العشوائية ومزارع الزيتون، وبالتالي اختفوا.
لماذا استهدف المسلحون فرع البنك الأهلي تحديداً؟
يشرح الصحفي أحمد عبد الستار المقيم في العريش، في روايته لـ"عربي بوست" أن فروع البنك الأهلي في رفح والشيخ زويد أغلقت وتم إخلاؤها ضمن المصالح الحكومية التي تم نقلها من هناك، لافتاً إلى أن هذا البنك هو المسئول عن استلام المخصصات المالية من القاهرة وإعادة توزيعها على المصالح الحكومية في رفح والشيخ زويد.
وتابع عبد الستار، يوم الأحد فقط وصلت المخصصات المالية لفرع البنك الأهلي بوسط العريش وكان من المفترض أن يقسم الموظفون في البنك هذه المخصصات صباح الإثنين لبدء تسليمها لمندوبي المصالح الحكومية غداً الثلاثاء.
وأكد عبد الستار على أنه هاتف مسئولاً في البنك وأكد له سرقة كل الأموال التي كانت موجود في خزينة البنك وقت الهجوم، والتي تقدر بحسب المسئول بين 17 إلى 18 مليون جنيه، وتمت سرقتها بالكامل بعد تفجير الخزينة الرئيسية للبنك.
ماذا يعني استهداف المسلحين لخزينة البنك؟
تعجبت الصحفية والمذيعة السيناوية أميرة شعيشع من نجاح السطو على أموال بنك يقع وسط ٣ ارتكازات أمنية، وفي حراسة المدرعات.
لكن علي بكر الباحث في شئون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، قال بأن هذه العملية تعد الأولى من نوعها التي يستهدف فيها تنظيم إرهابي في سيناء الاستيلاء على أموال وهو ما يفسر بلا أي درجة من الشك أن التنظيم يعاني مادياً الآن.
في اتصال مع "عربي بوست اعتبر بكر ما جرى انتصاراً كبيراً للجيش المصري، "لأن الجماعة المسلحة التي نفذت العملية الإرهابية أمس كانت لا تستهدف الكمائن بشكل أساسي كما هو المعتاد منها، وإنما كانت تستهدف تشتيت الأمن لتتمكن من الوصول إلى مقر البنك والاستيلاء على الأموال".
استهداف الكمائن بدأ منذ عصر اليوم السابق
قبل ساعات من احتلال وسط العريش صباح الإثنين، كان الملثمون قد شنوا هجمات متزامنة على عدة أكمنة أمنية. الهجمات بدأت الساعة الرابعة والنصف عصر الأحد بسيارات دفع رباعي، واستهدفت نقاط وتمركز قوات الجيش بمنطقة القواديس، ما أسقط 9 قتلى في صفوف الجيش، وارتفع عدد الضحايا لاحقاً إلى 13 جندياً وضابطاً.
أما صباح الإثنين فقد أصبحت 3 كمائن بشارع 23 يوليو في مرمى الملثمين مجدداً. ويقول أحد سكان المدينة أن الاشتباكات توقفت في الأكمنة الثلاثة تقريباً في نفس التوقيت عند الساعة التاسعة والربع وانسحبت المجموعات أيضاً من شارع أسيوط واختفوا في مزارع الزيتون جنوب العريش.
وتابع الشاهد على أن المسلحين لم يشعلوا النار في كنيسة مارجرجس كما انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، ويبدو أنهم لم يكونوا يستهدفون الكنيسة وإنما شغل الأمن، حتى سرقة البنك.
وأضاف الشاهد أن المسلحين كانوا يهتفون "الله أكبر" ويهللون وقت الاشتباكات.
أين كان سكان المدينة وقت الهجوم؟
يقول الصحفي أحمد عبد الستار أن المنطقة التي شهدت أحداث اليوم قريبة من مجمع مدارس ابتدائية وثانوية وحضانة، وبالتالي ثار ذعر بين سكان المدينة والتلاميذ بسبب أصوات الاشتباكات، فقررت الإدارات بكل المدارس عدم خروج الطلبة، إلا بحضور ولي أمرهم.
وأضاف عبد الستار أنه عند الساعة العاشرة والنصف تمكنت قوات الأمن من السيطرة على وسط المدينة وأغلقت شارعي 23 يوليو و26 يوليو أمام المارة والسيارات، وسمحت للتلاميذ بالمرور من شارع واحد فقط استطاعوا من خلاله الخروج من مجمع المدارس عند الساعة 11 صباحاً تقريباً.
ويتابع بأن معظم المحلات في وسط البلد (العريش) لم تكن قد فتحت ورغم ذلك تضررت كثيراً من الأحداث ودمرت واجهات العديد منها.
ما الذي يجعل هذه العملية نوعية؟
يشير الناشط السيناوي عمرو حجازي إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يصل فيها المسلحون إلى وسط العريش، وهي المنطقة التي تعد من أكثر المناطق تأميناً بشمال سيناء، لكنها المرة الأولى التي يقومون بعملية بهذا الحجم بمشاركة هذا العدد من المسلحين. "في بداية العام الجاري هجم مسلحون عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل على كمين مجلس المدينة بوسط العريش واشتبكوا مع أفراد الكمين لكن هذا لم يستمر أكثر من 10 دقائق، بينما في هجوم الإثنين استمروا نحو أربعين دقيقة".
ما علاقة تلك العملية بالتقارب بين مصر وحماس؟
يربط الباحث علي بكر العلاقة بين ما حدث في وسط العريش والمصالحة الفلسطينية بين حماس وفتح من جهة والتقارب المصري الحمساوي في الفترة الأخيرة. "التنظيم أصبح معزولاً في المنطقة الصحراوية بين غزة والعريش، وقطع عنه كل خطوط الإمداد التي كانت تصله عن طريق غزة، خاصة بعدما أعلنت حماس عن إنشاء منطقة عازلة مع مصر تمتد من معبر رفح شرقاً وحتى البحر غرباً على عمق 100 متر في الجانب الفلسطيني، وتواجدت بها بشكل مكثف".
وقال بكر إن تلك المنطقة حرمت التنظيم في سيناء من التواصل مع التنظيمات التكفيرية المتواجدة في غزة والتي كانت تمده بالمال والسلاح. مضيفاً بأن ذلك يوضع إلى جانب العمليات العسكرية الناجحة التي قامت بها القوات المصرية خلال الفترة الماضية والتي استهدفت مخازن ومخابئ للإرهابيين كبدتهم خسائر فادحة من الأرواح والعتاد. وهو ما دفعهم إلى مغامرة اقتحام وسط العريش والسطو على بنك حكومي.
يضيف بكر: رسالة التنظيم في عملية وسط العريش كانت واضحة، وهي أننا جماعة موجودة وفاعلة رغم أنف التقارب المصري الحمساوي.