تحتوينا الزهور بعطرها الأخاذ، وتختلف الروائح في قوتها وسحرها، وكذلك أخلاق الناس من حولنا.
الأخلاق هي العبير الذي يأخذ بالنفس؛ فيبقى له في القلوب عبقاً لا يُنسى، وكلما تزوّد المرء من هذا العبير، زادت مكانته في قلوب من حوله.
إن كان الواحد منا لا يقوى على أن يحتوي الناس بماله؛ فإن في حسن خلقه معهم ما يكفيه لأن يتقرب إلى إليهم.
العصر الذي نحياه الآن، وإن امتلك المرء من الشهادات والمهارات ما يعجز عنه غيره، فإنه لن يرتقي للمكانة التي يرغبها ما لم يتوسل لذلك بخُلُقٍ حسن.
ولنا فيمن سبقنا المثل والعبرة؛ فلقد كان علي بن العباس ابن الرومي، شاعر بغداد، وقد اعتبره الكثيرون من أعظم شعراء العربية على الإطلاق، ومع ذلك فقد كان ضيق الخلق؛ فلم يقرِّبه أحد من الخلفاء الثمانية الذين عاصرهم! وقف سوء خلقه حجر عثرةٍ أمام طموحه في الوصول إلى المرتبة التي يستحقها، وزاد من إقصائهم له أن ثُلثَ ديوانه هجاءٌ للولاةِ والوزراء.
كتب لسانُ ابن الرومي السليط مشهده الأخير في الحياة؛ إذ بلغ من تخوُّفِ المسؤولين من فاحشِ قوله وإقذاعه وسلاطة لسانه أن أغرى وزير المعتضد، أبا الحسين بن القاسم، بالتخلُّص من ابن الرومي.
أمر الوزيرُ أبا الحسن بن فراس بدسِّ السُّم لابن الرومي في خشكنانجة -وهي ضربٌ من الحلوى- للخلاص من شرِّه، وحتى مع لحظاته الأخيرة لم ينجُ الناس من سياط كلماته! فبعدما استشعر بالسُّم في جسده سأله الوزير: إلى أين يا أبا العباس؟ قال: إلى حيث أرسلتني، فقال الوزير: سلِّم على والدي؛ فقال ابن الرومي: ليس طريقي إلى النار!
ثم كان من بعده أبو حيان التوحيدي، الذي سقط في نفس المأزق المهلك، لم يشفع لأبي حيان جمال أسلوبه ولا ثقافته الواسعة التي دفعت معاصريه إلى أن يطلقوا عليه "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء"، كل ذلك لم ينتفع به أبو حيان لا لشيء إلا أنه كان ضيق الصدر سيئ الخلق.
بلغ به ضيق صدره أن أحرق كتبه وهو في التسعين من العمر! وكان كثير الشكوى من تجاهل أقرانه له مع جودة تصانيفه وسعة درايته وروايته.
اتصل التوحيدي بألمعِ رجالات عصره، إلا أنه رجع بخفي حنين، وكان من بين هؤلاء الوزيران ابن العميد والصاحب ابن عباد، وقد كتب التوحيدي كتابه "مثالب الوزيرين" يشتفي لنفسه بهجائِهما والتطاول عليهما؛ وأنهما قد أشاحا عنه بالحال والمقال.
سوء خلق التوحيدي أسخطه على الدنيا وما فيها، وآلى بذلك ألاَّ يغيِّر من طباعه لينتعِشَ حاله وينعم باله؛ فاتشحت حياته بالبؤس والشؤم إلى أن خرج من الدنيا صفر اليدين.
وتأكيداً للمبدأ القائل: "بضدها تتمايز الأشياءُ"؛ فقد أشرنا إلى عَلَمين من أعلام العصر العباسي الذي ضيَّق عليهما سوءُ الخلق وضيق الصدر، وإن كانت الأمثلة لا نهاية لها في هذا الباب المهم في حياتنا دون استثناء، وليست العبرة بكثرة الأمثلة وإنما بالعظة التي يتعين علينا استنباطها واستحضارها في تعاملاتنا وسلوكياتنا.
ومن جميل ما بلغنا أن المسيح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- سُئل يوماً: مَن أدّبك؟ قال: "ما أدبني أحد، ولكني رأيت جهل الجُهَّال؛ فجانبتُه"، وهذه الحكمة يمكننا تطبيقها على أخلاقنا؛ لنسعدَ ونحظَ بما نتوق إليه.
إن أثقلَ ما يوضع في ميزان العبد الخلق الحسن، وكلُّ عيبٍ يمكن تداركه وتلافيه إذا ما اعتصم المرء بكريم الأخلاق وحسن المعاملة؛ فاحرص على أن تهذِّب من أخلاقِك ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وثق يقيناً أن في وسعك بلوغ أي مكرمةٍ تريد إذا ما كنت صادق العزم والطوية، وثابر طويلاً لتنعم بما تشتاق بلوغه وتشتهي، وكما أنَّ العلم بالتعلُّم والحلم بالتحلُّم؛ فإنَّ الأخلاقَ بالتخلُّق، وفي ذلك يقول أبو تمام:
قال يحيى بن معاذ: "في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق"، وهذه حقيقةٌ لا خلاف عليها، والأخلاق أرزاقٌ قسمها الله بين عباده، ولن يصل أحدنا إلى ما يؤمله إلا بخلق حسن، وإذا كانت النفوس بيوت أصحابها؛ فإن أفضل ما ندخل به تلك البيوت أن نستعمل الرفق في القول والإحسان في التعامل.
كان ديدن الصادق الأمين سعة الخلق التي فاح عبيرها في أرجاء الجزيرة العربية؛ فتقاطرت إليه الوفود لتنعم بهذا العبير الذي لا مثيل له، وأعلنها صراحاً بواحاً حين اختزل رسالته في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ومع اتفاق ابن الرومي والتوحيدي في خصيصةٍ من خصائص أصحاب الهمم العالية والنفوس الكبيرة، وذلك أنهما كانا مولعين بالعلم ويترددان على حلقه ودروسه مما أكسبهما حصيلةً ثقافية فذة وهائلة، إلا أنهما اتفقا في خِصلةٍ منفِّرة ومدمِّرة؛ إذ كانا ضيّقي الصدر كثيري السخط والامتعاض، والشكوى والهجاء.
ربما يترك المرء منصبه الذي شغله لفترة وينسى الناس له كلَّ ما قدَّم إلا عبير أخلاقه، تظلُ أخلاقه الحسنة تعطر ذكره وتؤطر ذكراه في الأفئدة والأسماع، وقد يحبه الكثيرون ممن لم يتعاملوا معه؛ لما تنامى لأسماعهم عن أخلاقه السمحة وآدابه النبيلة.
أظنك تذكر بعض هؤلاء الآن وتبتسم وأنت تتمتم: هذا صحيح؛ فإن كان ذلك كذلك فإن واجبك أن تنشر عبيرهم الطيب، فهذا من شأنه أن تكسو الأجواء أرائِجُ أخلاقهم وتبعث في النفوس تطلُّعاً وتشوُّفاً للتحلي بهذه الشمائل العظيمة والمثل الكريمة.
امتدح الله رسولنا الكريم بقوله: "وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم"، والخلق العظيم يَنُمُّ عن الدين القويم، ولذلك روي عن الفضيل أنه قال: مَن ساء خلقه ساء دينه، وهذا الاقتران بين الخلق والدين نراه في قول الإمام ابن القيم: "الدين كله خلق؛ فمن فاقك في الخلق فاقك في الدين".
وفي لحظة ما نستعيد ذكرياتنا؛ ونتوقف عند شخصيات تركوا في حياتنا أثراً طيباً بأخلاقهم الدمثة، وروحهم الطيبة الوديعة التي ألهمتنا وأنارت دربنا إلى يومنا هذا.
واسمح لي صديقي القارئ أن أطلب منك التواصل مع هؤلاء ولو لدقيقةٍ واحدة، واعترف لهم بما تركه عبير أخلاقهم في حياتك؛ فالله جلَّ وتعالى أمرنا بمدحه وهو الغني؛ فما بالك بالبشر!
إن الامتنان الذي نبديه لكل من كانت له بصمةٌ إيجابية في حياتنا يبعث في النفوس طاقة إيجابية نحتاجها باستمرار.
وفي الختام يروق لي بيتٌ أمير الشعراء أحمد شوقي، البديع:
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.