كانت هذه المدينة الشمالية لفترة طويلة حالةً خاصةً يتعايش فيها النظام السوري وإدارةٌ كردية منافِسة له معاً -وهما ليسا حليفين تماماً أو عدوين تماماً- فيما تحتدم حربٌ متعددة الأطراف حولهما.
لكن نجم الحكومة في دمشق في حالة صعود الآن، وذلك بعدما تراجعت من حافة الانهزام إلى تدمير قوات المعارضة واستعادة السيطرة على مساحاتٍ من الأرض من قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) المُنهَك. ويقول الأكراد، الذين جعلوا من مدينة القامشلي قاعدةً لمنطقة الحكم شبه الذاتي التي أقاموها في معظم الجزء الشمالي من سوريا خلال الصراع الدائم منذ سنوات، إنَّهم يعلمون أنَّ اليوم الذي سيحاول فيه النظام استعادة المدينة بأكملها بات قريباً، وفق صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية.
فقال عبدالكريم عمر، أحد قياديي الإدارة الكردية والمقيم بالقامشلي، إنَّ "النظام لا يزال يحلم بالفترة التي سبقت عام 2011، ويعتقد أنَّه سيعود للسيطرة على سوريا بالكامل. لكن هذا التفكير ليس واقعياً. إنَّنا على يقين بأنَّ النظام سيسعى وراءنا إن سنحت له الفرصة".
هي مدينة سورية تقع في جهة الشمال الشرقي على الحدود مع تركيا وعلى مقربة من سفح جبال طوروس بمحاذاة مدينة نصيبين التركية، وتتبع إدارياً محافظة الحسكة. ويبلغ عدد سكان المدينة نحو 88 ألف نسمة حسب إحصاء 2007، ويقطنها خليط من العرب ومن الأكراد والسريان/الآشوريين والأرمن، بحسب ما ذكرت موسوعة ويكيبيديا.
وقال عمر إنَّه بعد وضع جدولٍ زمني لإجراء الانتخابات البرلمانية أوائل عام 2018، تخطِّط الإدارة الكردية لإعلان المدينة عاصمةً للمنطقة، وهي خطوة يمكن أن تزيد التوترات في المستقبل مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وبعد كل بضعة مبانٍ سكنية، تظهر صورةٌ للأسد، وتمثالٌ لوالده الراحل حافظ الأسد وذراعاه مرفوعتان للأعلى، أو لافتاتٌ تُظهِر الزعيم السوري مرتدياً زياً عسكرياً، إلى جانب تعهُّدٍ كُتِب فيه: "نبايعك للأبد".
وتمثل هذه المعالم تذكيراً دائماً للأكراد بأنَّ النظام سيأتي في نهاية المطاف للنيل منهم.
ويعيش سكان القامشلي بين الإدارتين، ويدفعون ضرائب وتُحصَّل منهم فواتير نظير الخدمات في المدينة من كلا الجانبين. وأحياناً، يحصلون حتى على غرامةٍ مرورية من كلتا السلطتين؛ بسبب المخالفة المرورية نفسها.
فقال محامٍ يمضي أيامه في التنقل جيئةً وذهاباً بين محكمتين تمثلان النظامين القضائيَّين المتوازيَين: "الناس تائهون بين الجانبين".
في السنوات الأولى من الانتفاضة، انسحبت الحكومة السورية وجيشها بصورةٍ كبيرة من المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال شرقي البلاد، ومن ضمن ذلك القامشلي. وكان ذلك محاولةً لاسترضاء الأكراد، الذين حُرِموا الكثير من الحقوق الأساسية مثل الحصول على جواز سفر، ولمنعهم من الانضمام إلى المعارضة. ونتيجةً لذلك، لم يتقاتل النظام السوري والميليشيات الكردية الرئيسية فيما بينهما إلا نادراً.
واستفادت الإدارة الكردية من السيطرة على المباني الحكومية؛ كي تعلن أنَّها السلطة الجديدة في المدينة الواقعة على الحدود التركية، والتي تعد مركزاً اقتصادياً هاماً شرق سوريا. ولا توجد تقديرات محددة لأعداد السكان حالياً، إلا أنَّ مسؤولاً محلياً قال إنَّ هناك نحو 750 ألف شخص يعيشون فيها.
صمود طويل الأمد
وقال سكانٌ ومسؤولون إنَّ الصمود طويل الأمد للمنطقة الكردية في سوريا يعتمد على استمرار الحضور الأميركي في المنطقة، إلا أنَّ الولايات المتحدة الأميركية لطالما نفت أنَّها ستُمكِّن الأكراد من إقامة المنطقة، وقد أوضحت إدارة الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، أنَّ مصالحها في سوريا تقتصر على محاربة تنظيم داعش.
فقالت هيذر نويرت، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، في أغسطس/آب الماضي، إنَّ "مهمتنا الأولى والأخيرة.. هي هزيمة تنظيم داعش". وكانت هيذر ترد على تصريحاتٍ لقوات سوريا الديمقراطية، التي زعمت أنَّ الولايات المتحدة ستحافظ على وجودٍ لها في سوريا عقوداً.
وفي الوقت الراهن، تحتفظ الولايات المتحدة بوجودٍ عابر في القامشلي، حيث ترسل حمولات تشمل عدة شاحنات مُحمَّلة بالأسلحة والمدرعات عبر شوارع المدينة إلى القوات الكردية والعربية الحليفة التي تقاتل داعش في الرقة على بُعد نحو 170 ميلاً (273.6 كم) غرباً.
وأشعل الاستفتاء على الاستقلال الذي أُجري في شهر سبتمبر/أيلول الماضي بإقليم كردستان الذي يتمتع بحكمٍ ذاتي في العراق المجاور- أزمةً سياسية رفعت مخاطر وقوع صداماتٍ بين القوات العراقية والكردية، اللتين كانتا حليفتين ضد داعش حتى وقتٍ قريبٍ. ووحَّد تحرُّك أكراد العراق نحو الاستقلال أيضاً بين حكوماتٍ إقليمية -لديها هي الأخرى سكانها من الأكراد الثائرين- تعارض هذه التطلعات.
واتسم الصراع الدائر في سوريا منذ أكثر من 6 سنوات، بوجود مدنٍ مُقسَّمة تسيطر عليها الأطراف المتحاربة. وتميَّزت خطوط المواجهة الأمامية في المدن المتنازع عليها، مثل حلب وحمص، بوجود أكياس الرمل والمركبات المتفحمة.
لكنَّ السيطرة في القامشلي تتغير عبر خطوطٍ غير مرئية. وتدور المعركة في كثيرٍ من الأحيان عبر النظم القانونية المتنافسة أكثر منها عبر استخدام العنف؛ إذ تحاول كل حكومةٍ تعزيز سلطتها من خلال فرض قواعد وقوانين خاصة بها.
فالسائقون مجبَرون على اختيار استخراج لوحات تسجيل السيارات؛ إما من قِبل النظام السوري وإما الإدارة الكردية، ويُفضِّل البعض تراخيص النظام؛ خوفاً من مصادرة المركبات التي لا تحمل تراخيصه حين يسيطر النظام السوري على المدينة.
وتُسيِّر شرطة المرور التابعة للنظام دورياتٍ في دوَّارات وشوارع بعينها، وتُصدِر مخالفات انتظار السيارات، وتلقي القبض على الرجال المطلوبين للخدمة العسكرية.
وقال جوان تتر، وهو صحفي محلي، إنَّه كان يستقل سيارة أجرة ذات مرة في طريقه لقضاء مهمة عندما وجد نفسه فجأة في شارع يسيطر عليه النظام. وكان قد أمضى عامين من الخدمة العسكرية الإلزامية، لكنَّه كان لا يزال مطلوباً للخدمة الاحتياطية.
وأضاف: "شعرتُ بالخوف. لقد أخبرتُ سائق سيارة الأجرة بأن يقود في طريقٍ ليس طريقي فقط؛ كي أنجو منهم".
ورغم سيطرته المحدودة على القامشلي، واصل النظام تأكيد هيمنته عليها؛ لأنَّ هناك حكومةٌ مركزية يمكنها القيام بذلك.
فقال أستاذٌ جامعي يعيش في المدينة، إنَّ أحد أقاربه مُنِع من الصعود على متن إحدى الطائرات في مطار القامشلي، الخاضع لسيطرة النظام؛ لأنَّه لم يدفع فواتير الخدمات العامة إلى النظام.
وحجبت الحكومة المركزية أيضاً، الرواتب عن الرجال الذين تجاهلوا إخطارات الخدمة العسكرية.
وتُعَد محكمة النظام هي المكان الوحيد لتسجيل المواليد، والزيجات، والوفيات رسمياً. ولا بد من تسجيل جميع المعاملات العقارية والمواريث لدى النظام، الأمر الذي يمنحه أفضلية أخرى في صراع القوة بالمدينة.
وحتى القرارات القضائية التي تُتَّخَذ في محكمة الإدارة الكردية، يجب أن تُسجَّل لدى محكمة النظام.
وقال المحامي الذي يتردَّد بين المحكمتين: "نذهب إلى الإدارة (الكردية) من أجل الخدمات، ونذهب إلى النظام من أجل المسائل القانونية".
لكنَّ الإدارة الكردية لا تمتلك أي شرعية خارج حدودها. وفشلت محاولات الحصول على اعترافٍ بها من الدول الأجنبية.
وعلى الرغم من أنَّ السيطرة المشتركة على القامشلي مضت بصورةٍ سلمية في أغلب الأحيان على مدار سنوات، فإنَّ صداماتٍ دامية اندلعت في بعض المناسبات. ففي ظل وجود طرفين يتنافسان على السيطرة وقوتهما في تزايد، يبدو أنَّ أفق التوصل لسلامٍ دائم يبقى محل شك.
ووفقاً لوسائل الإعلام الرسمية، قال نائب وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في أغسطس/آب، قبيل الانتخابات المحلية التي أجرتها الإدارة الكردية، إنَّ الحكومة السورية "لن تتخلى عن ذرة ترابٍ واحدة من الأرض. ويجب على هؤلاء الحالمين التخلِّي عن أي أحلام شيطانية أخرى؛ لأنَّ ذلك سيؤدي إلى مزيدٍ من القتل وإراقة الدماء".