حظي القرار الأُحادي الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالنكوص عن الاتفاق النووي الإيراني، بالإدانة الجماعية من قبل الأصدقاء والأعداء على حد سواء.
إذ انضمت بريطانيا إلى فرنسا وألمانيا في الإعلان عن دعمهم المستمر للاتفاقية حسب نصها. وتلقت إيران دعماً من الصين وروسيا، في إدانة خطوة ترامب بصفتها غير مبررة ومُزعزِعَة للاستقرار بصورةٍ خطيرة.
فكرة أنَّ ترامب لا يبالي كثيراً بآراء الآخرين كانت واضحة من البداية. لكنَّ ما يبدو ظاهرياً ككارثةٍ دبلوماسية كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير من ذلك، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
إذ كان من المتوقع بشدة أن ينسحب ترامب من الاتفاقية بشكلٍ كامل، وأن يطالب بعقوباتٍ قاسية، وأن يتخذ خطواتٍ أخرى لتشويه سمعة إيران بصفتها أكبر "الدول الإرهابية" في العالم.
مَن الذي أقنعه بالتراجع؟
تراجُع ترامب جاء نتيجة لحملة ضغط مكثفة رفيعة المستوى. وقام بهذا الضغط مسؤولون كبار في البيت الأبيض، ورؤساء وزراء وحلفاء مقربون مثل رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي، التي تدخلت شخصياً باتصالٍ هاتفي. والنتيجة: كبح جماح أسوأ نوايا ترامب ضد إيران، على الأقل حتى هذه اللحظة.
وكان من قاد الحملة في الجناح الغربي للبيت الأبيض ثلاثة جنرالات سابقون هم: جون جيلي، رئيس أركان ترامب، وجيم ماتيس، وزير دفاعه، وهربرت ماكماستر، مستشاره لشؤون الأمن القومي. خدم الجنرالات الثلاثة في العراق، وهم يعرفون، بخلاف الرئيس، ما معنى أن تكون مسؤولاً عن تنفيذ هذه السياسات.
ويعني تدخل الجنرالات الثلاثة أنَّ خطاب ترامب، المشتمل على خطأٍ استراتيجي، والعدواني بلا داع، وغير الدقيق تاريخياً وواقعياً، لم يؤدِ إلى النتائج الكارثية المتوقعة منه. وفي البيت الأبيض، كانت تلك ليلة الجنرالات.
ولا تزال إمكانية نجاح مستشاري ترامب ومساعديه الأساسيين، الذين تحركوا بدافعٍ وتحريضٍ ودي من قادةٍ خارجيين، في الضغط بهذا الشكل مرةً أخرى في المستقبل سؤالاً مفتوحاً. لكن ما حدث يُشكِّل سابقةً مهمة.
يمكنه إطلاق الأسلحة النووية دون تشاور
القضية الأكبر القادمة هي كوريا الشمالية، حيثُ هدد الزعيم الأميركي برعونة بإمطار المغرور كيم جونغ أون بالموت والدمار، رداً على التجارب النووية للنظام الكوري الشمالي.
وتنَّبه البيت الأبيض متأخراً إلى حقيقة أنَّه لدى الرئيس السلطة لشن ضربةٍ نووية دون أي تشاورٍ مسبق. وثمة نقاش الآن لكبح جماح هذه السلطة. لكن حتى اللحظة فإنَّ الجنرالات الثلاثة، كيلي وماتيس وماكماستر، هم آخر خط دفاع لمنع ترامب من بدء حربٍ عالمية ثالثة.
سيشعر الحلفاء الأوروبيون بالسرور من أنَّ ضغوطهم قد أثرت على قرار ترامب بشأن إيران. لكنَّ لفرحتهم تلك حدوداً. إذ أوضح ترامب أنَّه لا يزال مستعداً لتمزيق الاتفاقية بالكامل في أية لحظة، وعملياً، ما لم يكن نظرياً، لديه من الوسائل ما يمكنه من فعل ذلك، بسبب الهيمنة الأميركية على البنوك العالمية وأنظمة العملة.
ولو وافق الكونغرس على دعوة ترامب إلى وضع معايير إضافية لقياس انصياع إيران للاتفاقية، بما في ذلك الأمور العرضية غير النووية مثل برنامجها للصواريخ الباليستية، وتجديد العقوبات الأميركية، فقد يكون الرفض الإيراني وانهيار الاتفاقية وشيكاً.
أمل في اتفاقية باريس
وعلى كل حال، فإنَّ ما حدث من تقليم متواضع لأظافر ترامب يوم الجمعة يعطي أملاً بأنَّ اتفاقية باريس الدولية للمناخ، على سبيل المثال، والتي كان ترامب قد نبذها اعتباطاً في شهر يونيو/حزيران 2017، من الممكن إصلاحها. إذ أشار ماكماستر ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، الشهر الماضي، إلى أنَّ هذا القرار يمكن التراجع عنه. وثمة الكثير من الولايات والمدن الأميركية تتجاهل ترامب على كل حال، ولا تزال ملتزمة بأهداف اتفاقية باريس.
المغازلة المدمرة للسعودية وإسرائيل
ولو كانت الضغوط، عند تطبيقها بعناية، يمكن أن تكون ذات فاعلية في قلب قرارات الطاغوت ترامب، فإنَّ العكس صحيحٌ أيضاً. إذ لعبت المغازلة الدؤوبة من قبل حكومتي إسرائيل والسعودية، وخاصةً خلال زيارته رفيعة المستوى إلى البلدين، في شهر مايو/أيار الماضي، دوراً في تأجيج أسوأ غرائزه العدوانية. وقد سارع البلدان في تهنئته بالأمس.
شملت النتائج المؤسفة لهذه المغازلة إطلاق الولايات المتحدة يد السعودية في اليمن (مع ما يصاحب ذلك من نتائج كارثية)، وغض الطرف عن سجل الرياض في مجال حقوق الإنسان (الذي لا يقل سوءاً عن إيران)، وإعطاء الولايات المتحدة الضوء الأخضر لمستوطناتٍ يهودية جديدة وضم المزيد من المساحات في الأراضي المحتلة (ومن ثم زيادة تقويض عملية السلام المحتضرة).
نجح السعوديون والإسرائيليون كذلك في إقناع ترامب بأنَّ النفوذ الإقليمي المزدهر لإيران يشكل تهديداً إضافياً لمصالح الولايات المتحدة. ولا يميل الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس، ممن يستفيدون من مساهمات تمويل حملاتهم الانتخابية وعقود الدفاع، إلى تغيير مثل هذا التفكير.
والمفارقة، التي لم يدركها ترامب الجاهل تاريخياً، أنَّ إيران، بتوسيعها لنفوذها الإقليمي، تتصرف بالطريقة ذاتها التي اتبعتها الولايات المتحدة في أميركا الوسطى واللاتينية، وفي أوروبا الغربية منذ عام 1945. وتهدف هذه السياسات، التي ينشدها الطرفان عن قصد، إلى تعزيز الأمن القومي، والنفوذ السياسي، والمصالح الاقتصادية.
وفي ضوء هذا الطموح المتشابه، استفادت إيران فائدةً جمة من السياسة الأميركية الأخيرة، التي، على سبيل المثال، سلَّمت المنافس القديم لطهران، جارتها العراق، على طبقٍ من ذهب بعد اجتياحها عام 2003. وفيما يتعلق بإيران، فأميركا هي أسوأ أعدائها، وترامب الجاهل يحافظ على استمرار تلك العداوة.