صنعت الدولة العربية الحديثة مؤسسة الفقه الإسلامي على صورتها؛ مؤسسة عاجزة جامدة مترهلة، وغير قادرة على العطاء والإبداع.
كل عام، تقوم عشرات الجامعات والمعاهد الشرعية في طول العالم العربي وعرضه، بتخريج الآلاف من حملة الشهادات في تخصصات الفقه، ومباحث الشريعة عموماً، ولا نكاد نلمس أثراً لهذا الدفق العظيم من الدرجات العلمية، ورسائل الماجستير والدكتوراه.
وتستخدم أغلب الدول العربية الدين كإحدى أدواتها في السيطرة على المجتمع وتطويعه، صحيح أن هناك مثالاً أو اثنين يمكن استحضارها كأحد أكثر أشكال هذا التوظيف القهري لإرهاب الناس وتركيعهم، لكن أكثر دولنا شريكات بشكل أو بآخر في هذا الاستخدام للدين كإحدى أدوات السلطة، والكذب على الله والناس باسم رعاية الشريعة، ودون أن يرف لها جفن، وهي تناقض نفسها بادعائها رفض استخدام الدين في السياسة.
وصحيح أن هذه الدول تتباين من حيث تلظيها خلف مدارس ومذاهب مختلفة، بين سلفية وصوفية وأخرى "تنويرية"، إلا أن الاستخدام الوظيفي للدين يجمعها بشكل بين وواضح.
وهذا الدور الذي فرضته الدولة للدين، أجبر عناصر مؤسسة الفقه والشريعة – وهي مؤسسة حكومية إلى حد بعيد – على الاحتكام إلى ضوابط عمل مؤسساتهم كباقي موظفي الدولة.
وعلى مر السنوات والعقود تلبس أكثر المفتين والأئمة والفقهاء نفس رداء الجمود الذي يعتري البيروقراطية العربية؛ فهم ملتزمون باتباع التعليمات، ومهجوسون – عن حق- برفع رواتبهم الضئيلة، والمكافحة لنيل مكتسباتهم المنقوصة، من رب العمل المسيطر والمتحكم، وبما لا يتيح مجالاً لخدمة الفقه الإسلامي بشكل فعال؛ ناهيك عن تجديده وتثويره ليواكب العصر ويحكم في المستجدات الكثيرة جداً.
ولعل العهد لم يطل بعد لننسى كيف شهدنا انكشاف التجريف الذي ألحقته دولة عربية بمؤسسة شبيهة بمؤسسة الفقه، وأعني هنا مؤسسة القضاء في مصر.
لقد رأينا بعض رموز هذه المؤسسة، من أعلام التنوير والتجديد، مصطفين في موقع الدفاع عن مكتسباتهم التمييزية، غير الشرعية، التي منحتهم إياها الدولة القاهرة (مثل التشريع العجيب لأولوية تعيين ابن القاضي في سلك القضاء ولو كان الأدنى تحصيلاً).
وعلى الرغم من مسيرة بعض تلك الرموز الحافلة في الدعوة (الأكاديمية) للتغيير والتجديد، فإنهم حين جد الجد كانوا جنود الدولة المخلصين.
لقد حوّلتهم الدولة إلى موظفين يكافحون للانضباط وفق لوائحها، طمعاً بما تعدهم به من امتيازات.
ومن المهم هنا التوضيح أن الحديث عن فساد المؤسسة وفساد المنهجية الحاكمة لا يعني أن عناصرها فاسدون كلهم بالضرورة، لكنهم قطعاً غير قادرين على العطاء من خلال هذا الإطار الجامد والمحكوم حتماً بالفشل الذريع، وشبه انعدام الفرصة للإنجاز.
وفي ذلك يتشابه الشيخ الموظف والفقيه الموظف – في قلة الحيلة وانكفاف اليد – مع المهندس الذي يخطط شوارع المدينة العربية البائسة، والممرض والطبيب الذي يعمل في مؤسستها الصحية المتهالكة.
وصحيح أن هناك فلتات إبداعية تظهر في الفقه – كما في المجالات الأخرى – إلا أنها تعجز عن التحول إلى حل عام وشامل، يخدم الناس في أبرز احتياجاتهم.
خذ مثلاً الحلول المالية الإسلامية؛ فعلى تعدد هذه المشاريع وتنوع المبادرات فما زالت أكثر الأسر العربية والمسلمة عاجزة عن تأمين المسكن الكريم، ضمن برنامح تمويل إسلامي إنساني مصمم لخدمة الناس، وما زال أكثر الجمهور العربي رهينة جشع المصارف، والمنظومة المالية المصممة لإثراء الأثرياء، وغير المكترثة بحاجات الفقراء أو ذوي الدخل المتوسط.
فليس من الممكن لأفضل الأفكار أن تجد طريقها للتطبيق الناجح والواسع، ما دامت المؤسسات القائمة تنتمي لمنظومة معادية.
فممانعة الدولة العربية البديهية تجاه أي فكرة أو مشروع حل لا ينتمي لعقيدتها الحاكمة (المتساوقة مع شروط البنك الدولي والمستعمر) لا تتيح الفرصة لفكرة قادمة من مدرسة "غريبة"، ولا تعطيها حق الدخول في منافسة عادلة، والخضوع لاختبار موضوعي ليقبلها الناس أو يرفضوها.
ولذلك ينكفئ الفقهاء على البحث في المساحات المفتوحة التي زهدت فيها الدولة، وهي مساحات قفر خلاء، لا تخدم الأغراض الملحّة الضاغطة على حياة الناس.
هناك إذاً منع منهجي لظهور فقه جديد يخدم الناس، ومنع منهجي لتطبيق ما قد يظهر منه بجهد جهيد من مبادرين أفذاذ. فأن ترفع الفقيه عن التزلف للسلطان والدعاء له بالسداد والتوفيق (وهو على ما نرى من نتائج دعاء غير مستجاب) فليس له إلا معالجة المواضيع الفلكلورية المكرورة (من قبيل حكم استعمال معجون الأسنان في رمضان).
أسوأ من ذلك، ينصرف أكثر الفقهاء والجمهور إلى التسلي بمعارك فقهية تنتمي للزمن الأول، إن حديثاً من قبيل الهجوم على "ابن تيمية" أو الانتصار له – هذا فيما نحن نرزح تحت جبال من المشاكل الأولى بالتناول والدراسة – أمر مثير للأسى، ولا يستحق في الإدانة شرف أن يوسم بأنه "جدل بيزنطي".
وأمام التعطيل العملي للاجتهاد، وحرمان الشريعة من التطبيق، فلا عجب أن يكون الفضاء الشرعي مشغولاً بأحكام فقه قديم لا يصلح لأيامنا هذه.. فأي ضرر يتأتى من التعصب لرأي ما في معركة جدلية لا صلة لها بالواقع، ولن يجد فيها هذا الرأي – مهما كان صادماً – فرصة للتبني والتطبيق، والانكشاف كحل منتهي الصلاحية؟
بل لا بد أن هذا الانشغال بالقديم يثلج صدر الدولة العربية، وهي ترى أن المشروع البديل يسيء لنفسه ذاتياً، فوق القبح الذي كبّلته به الدولة، وصبته عليه صباً.
ولكن، كيف يمكن لقيام "دولة إسلامية" أن يحل هذه العقدة المستحكمة، وكما يزعم عنوان المقال؟ حتى لا يخاف المتوجس، دعونا نوضح المقصود بالدولة الإسلامية: فهي دولة فلسفتها السعي لتحقيق مقاصد الشريعة العليا، من حفظ لدماء الناس وأموالهم وأعراضهم وكراماتهم وإنسانيتهم وحريتهم.
دولة كهذه، ستقدم للناس إطاراً يسمح للفقه أن يخرج من أسره، وينشط من عقاله، ويتقدم لخدمة الناس.
سيكون متاحاً القدوم باجتهادات شتى تخدم معايش الناس، وتجعل من سلامة وسعادة الإنسان غايتها وهدفها.
في دولة كهذه، سيستردّ الفقه موقعه الطبيعي كإطار قانوني يتنافس فيه الفقهاء (القانونيون) في اجتراح الأفكار والتشريعات التي تهدف لخدمة الناس، ودون سيطرة مركزية ضاغطة من الدولة.
ولا يعني قيام هذه الدولة أننا سنسلم مقاليد القرار لخطباء الجُمع ومشايخ المنابر (مع وافر الاحترام لهم) ليحلوا لنا أزمة السير والسكن والتعليم، بل سيعيد المجتمع الحر تشكيل مؤسسته الفقهية، وركنه القانوني الركين؛ لتضم أفضل العناصر وأكثرها تأهيلا، وقدرة على العمل مع المختصين.
لن تعود كلية الشريعة نادياً لمن فاته قطار التخصصات العليا (مع الاحترام للاستثناءات)، بل ستصبح دراسة الفقه أمراً جاذباً للعقول النيرة والهمم الطامحة، تماماً كما هو الحال مع دراسة القانون في البلاد الغربية.
وستوفر الدولة – بسبب تبنيها للفلسفة الإسلامية – القاطرة التي ستُتيح تجريب حلول إسلامية في شتى مناحي الحياة، وسيفشل بعضها ويذوي، "وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
وستصبح سوق الفقه أكثر نشاطاً وازدحاماً من سوق الأسهم، وستَقيس الدولة العتيدة نجاحها استناداً إلى معايير تتمركز حول هناءة الإنسان والمجتمع، وبمرجعية إسلامية، وليس استناداً إلى معايير رأسمالية متوحشة، تشهد لبعض الدول بالتقدم، رغم استشراء الفقر والقهر والذل فيها، طالما هي نجحت في التساوق مع شروط البنك الدولي.
إن تجديد الفقه الإسلامي يستوجِب إخضاعه للتطبيق العملي، لأخذ التغذية الراجعة، والتصويب والتطوير.
وهذا التطبيق والاختبار يحتاجان إلى دولة توفر لهما الأرضية المناسبة، وإلى أن يحدث ذلك، فستبقى معظم النشاطات الفقهية منصبة على اجترار سؤال مفطرات رمضان المعهود، والسؤال مراراً وتكراراً عن صفة الأضحية، وذلك في أوقات الاستراحة بين شوطي مباراة الهجوم على أبي حامد الغزالي، أو الدفاع عنه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.