تناولت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية الوضع في تركيا اليوم بنظرة استعراضية للموقف التركي وعلاقات البلاد الدولية.
العين بالعين، هكذا ردت الدولتان على بعضهما عندما تم إيقاف إصدار تأشيرات الدخول بينهما، وهو ما يعني أن عدداً ضئيلاً من الأميركيين سيتسنى لهم دخول تركيا نظراً لأنهم حصلوا على تأشيرات دخول في وقت سابق.
فاليوم أبواب تركيا مشرعة على مصراعيها أمام مواطني روسيا وإيران يدخلونها دون الحاجة لاستخراج تأشيرة دخول، أما الأميركيون فبعد التوتر والاحتقان الأخير مع تركيا على خلفية توقيف أنقرة واعتقالها موظفاً بالقنصلية الأميركية فقد باتت الأبواب موصدة أمامهم دون زيارة البلد الحليف العضو في منظمة حلف الناتو والذي كانوا حتى البارحة يدخلونه دون عناء.
لكن الصحيفة الأميركية أرجعت آفاق الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة إلى ما هو أبعد من حدود المشاحنة الأخيرة، حيث ترى أن الشرخ بين الدولتين تتسع هوته مع تزايد استياء كل منهما من الآخر، كذلك ثمة دول تزيد الوضع سوءاً لأن من دواعي سرورها أن يدب الخلاف والانقسام بين البلدين الحليفين، لا سيما روسيا وإيران.
وتضيف الصحيفة: "حتى فيما يخص الحرب السورية وجدت تركيا نفسها على مفترق طرق مع أميركا عندما اكتشفت أن طريقها يلتقي مع توجهات موسكو وطهران فيما يتعارض مع المصالح والأهداف الأميركية".
وتنقل الصحيفة عن آصلي أيدن تاشباش، زميلة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في إسطنبول القول "هذا أسوأ ما وصل إليه الوضع منذ استقلت الجمهورية التركية" عام 1923 "فالعلاقة بين مؤسسة الدولة مع الولايات المتحدة تضعف أكثر فأكثر، وبدأت الريبة تتسرب إلى العلاقات التجارية وقرارات الاستثمار بل وحتى إلى إطار منظمة الناتو."
جدير بالذكر أن الجليد لا يكسو علاقات أنقرة بواشنطن فحسب، بل ضرب كذلك علاقات تركيا بدول أوروبية رئيسية أهمها ألمانيا التي ساءت وتدهورت علاقاتها بتركيا كثيراً مؤخراً.
وعلى الرغم من عملية الانقلاب الفاشلة على أردوغان في السنة الماضية، والتي كشفت الكثير من الأمور المخفية، وثبتَ لأنقرة أن عناصر من النظام الأميركي تتعاطف مع الانقلابيين ولعلها شاركت فعلياً في التآمر وتنفيذ الانقلاب، أبدى أردوغان أملاً في أن تشهد العلاقات مع واشنطن فتح صفحة جديدة مع تولي ترامب الرئاسة، وهو ما بدا حينها في أول لقاء بينهما.
مواقف متراكمة
لكن جرعة التفاؤل هذه لم تقوَ على امتصاص السموم المتراكمة في العلاقة بين البلدين، حسب وصف الصحيفة الأميركية، ففي سوريا وبدلاً من التراجع عن مسار سياساتها مثلما كانت أنقرة تتوقع، زادت إدارة ترامب الأميركية من تمسكها بسياسة أوباما القائمة على تسليح ودعم ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية YPG التي ترى فيها تركيا وجهاً آخر لحزب العمال الكردستاني PKK الطامح إلى إنشاء دولة كردية على أراضي جنوب شرق تركيا، والمصنف لدى كل من واشنطن وأنقرة ضمن قائمة المنظمات الإرهابية.
كذلك أوغر صدرَ تركيا اعتقالُ رجل الأعمال التركي الإيراني رضا زرّاب الذي تربطه علاقات قوية بأردوغان، حيث تجري في نيويورك التحقيقات بتهمة خرقه العقوبات المفروضة على إيران، وزاد الطين بلة استمرارُ استضافة الولايات المتحدة لرجل الدين التركي فتح الله غولن الذي ترغب تركيا أن تسلمها إياه واشنطن لاتهامه بالتخطيط والتدبير بشكل رئيسي لمحاولة انقلاب العام الماضي. لكن كلا الرجلين ينفيان ارتكابهما لأي فعل شائن.
وفي الوقت ذاته أثار استياءَ المسؤولين الأميركيين احتجازُ تركيا طيلة عام كامل لآندرو برانسن، الكاهن المسيحي الأميركي الذي يتهمه المسؤولون الأتراك بكونه ذا صلة بالانقلاب، وهو ما ينفيه برانسن، لكن المسؤولين الأميركيين غضبوا مؤخراً من تلميحات تركية إلى مبادلة برانسن بغولن أو زراب.
وإضافة إلى كل ما سبق، أغاظ الجانبَ الأميركيّ تصرفُ الحرس الشخصي لأردوغان أثناء زيارته لواشنطن شهر مايو/أيار والذي قال مسؤولون إنه اتسم بالغلظة والعنف، فاجتمعت كل هذه العوامل وتراكمت لتخلق هذا التدهور في العلاقات بين البلدين.
وتنقل الصحيفة عن ستيفن كوك، الخبير في الشأن التركي بمجلس العلاقات الخارجية بواشنطن قوله بأن "اعتقال الموظف في القنصلية الأميركية كان شرارة أشعلت نار الخصومة الراهنة".
وقال السفير الأميركي في أنقرة، جون باس "إن الاعتقال أثار تساؤلات حول غاية بعض المسؤولين إفسادَ علاقة التعاون الطويلة التي بين تركيا والولايات المتحدة."
لكن منذ محاولة الانقلاب الفاشلة العام الفائت وبعض المسؤولين الأتراك الميالين أكثر لاستمرار التعاون مع الغرب يحذرون من تنامي معسكر قومي متطرف "ذي توجهات أورو-آسيوية" خصوصاً داخل الأجهزة العسكرية والأمنية في الدولة التركية، حيث يرى المنادون بفكر ونظرية هذا التيار، وأبرزهم السياسي والمفكر التركي دوغو بيرينجيك، أنه على تركيا التوجه لأخذ موقعها على خارطة تحالف حضاري "أورو-آسيوي" يجمعها بروسيا والصين وإيران، فيما عليها خلع أثواب الغرب وعلاقتها التقليدية به.
واشتدت حدة الشقاق بين البلدين عندما أعلن أردوغان أن القنصلية الأميركية بإسطنبول "اخترقها الجواسيس" ملوحاً في خطاب ناري له يوم الخميس 12 أكتوبر/تشرين الأول بأنه إن تمادت الولايات المتحدة في قلة احترامها لتركيا "فلسنا بحاجة لكم".
لا يبدو أن أي قنوات أو طرق قد تبقت لنزع فتيل الأزمة والتوتر بين واشنطن وأنقرة، فمصير كل من زراب وغولن هو "مسألة قضائية لا دخل للحكومة الأميركية فيها" حسب قول جيمس جيفري، السفير الأميركي السابق في تركيا، والذي مضى يقول "إن مستشاري الرئيس أردوغان يضللونه إن ظنوا العكس".
ولن تزيد الأمور إلا سوءاً على الأرجح في المستقبل المنظور، حسب قول سنان أولغن، رئيس معهد Edam للدراسات السياسية باسطنبول والذي كان دبلوماسياً تركياً سابقاً، ويقول "لا طريق واضح لتخفيف التصعيد" محذراً من أننا "سنجد أنفسنا بالتالي وعلى الأرجح على طريق المزيد من التصعيد."