لا يمكن للإنسان أن يتمالك نفسه ويضبط مشاعره، وهو يعيش في طيات زمنين، فيهما من التباين والقواسم الكثير، فيتجرع مرارة هزائم وانكسارات زمنٍ ذهب وغاب، وتعتصر قلبه آلام أمةٍ حاضرها جسدٌ معنّى، روح مضرجةٌ بالكبرياء، وشعوبٌ خبزها أرغفة دم، يترصد لهم الموت في كل صوبٍ واتجاه، أكانوا في مدن الصقيع والجوع، أم في قوارب الشؤم، تتقاذفهم أمواج البحار المظلمة… مرارات الزمن الماضي تصبح جراحاً غائرةً في الذاكرة لا تلتئم بسهولة، وتبقى قانية مع تتابع السنين العجاف، وهنا تتجلى الحقيقة بأن هزيمة الأمنيات أمام وقائع التاريخ واقع لا مفرّ منه، وكيف لا.. وجزءٌ من الحاضر يضج من ماضٍ قريب منهك، وبعيد غائب أو مغيّب…
أقلب صفحات الذاكرة المترنحة بين التاريخ والواقع، والتي اختزنت آلاف القصص والمشاهد الموجعة، لها أزيزٌ صاخب وهي تمرُّ في أفق الخيال، صورٌ لا يمكن نسيانها أو تجاوزها بسهولة ويسر، فهي صور قاتمة السواد، لها وقع شديد على النفس، فتتقلب ألماً جراءها وتنوح بنشيجٍ صامت مكلوم، صورٌ لا مفرّ منها، تحاصرني كلما شاهدت جذوة من لهب. مشاهد لأحداث لا تتكرر بحذافيرها ومرتكبيها، بل بالفعل الخارج عن الإنسانية والفطرة، والجرم الفظيع الذي لم يفرّق بين الإنسان ونتاجه الفكري، فأضاع في الحالين كنوزاً لا تتكرر أبداً، والمجرم لا ريب واحد، لو اختلف اسمه ولقبه ونطاق حكمه وجبروته، وعبرت به وحشيته المتغولة الأزمنة المتتابعة، حتى وصلت لحاضرنا المترع بالبؤس.
في الصورة الأولى أشاهد مدينتي الوادعة طرابلس الفيحاء، المزهوة بأزهار الليمون وبساتينه الممتدة، تلك المدينة الغراء التي أنشأ فيها بنو عمار مكتبةً من أعظم مكاتب الدنيا، حتى أضحت طرابلس تنافس بغداد وقرطبة بجلال الكتاب وعظمة العلم، لم يترك محتلوها من الصليبيين الفرنجة فرصة ليصل هذا الإرث المهول مستحقيه من الورثة، بل أحرقوا مكتبتها العظيمة بعد أن استعصت عليهم المدينة سنين طويلة، ودمروا مئات الآلاف من الكتب النادرة في كل علم وفن، وكانت الحجة امتلاء إحدى قاعات المكتبة بالمصاحف، فظنوا أنها مكتبة لا تضم إلا القرآن الكريم، ولم يعرفوا أن العلوم جميعاً تستقي من معين كتاب الله تعالى، فصدر الأمر وارتكبت تلك الجريمة الحضارية… أمعن الجهلة بامتهان الكتاب، وصنعوا من جلوده أحذية لهم… ولكن ما قيمة هذه الثروة العلمية أمام الآلاف الذين غيبتهم الأحداث في طيات تلك الكلمات القليلة… "دخل الفرنجة مدينة كذا وأبادوا البلاد والعباد"…
لا أستطيع تخيل مشهد إحراق الكتب في طرابلس، إلا وأستحضر ذلك المشهد الرهيب، الذي شهدته إحدى ساحات البيازين في غرناطة، حيث يجمع المتغلبون بالخديعة والظلم، كومة ضخمة من صفوة النتاج الفكري للعلماء والمفكرين والفلاسفة في الأندلس… ويضرمون النيران فيها بعد خطبة مليئة بالترهات والتحذلق، يشعلون النار أمام حشودٍ من المقهورين على خسارة البلاد… والكتب… فهي لهم الوطن الصغير بعد خسارة وطنهم الأكبر.. مشهد تكرر في غرناطة كثيراً بعدها، ثم تجدد بصورةٍ أكثر فظاعة عندما أُحرق المسلمون افتداء لدينهم، ولأنهم أبوا أن يتخلوا عن ثقافتهم العربية ولو في الأقبية، وفي سراديب البيوت، وأقام المحتلون باسم الدين والكنيسة محاكم "التفتيش"، التي ارتكبت واحدة من أعظم محارق التاريخ… وأفظع الإبادات الجماعية… وما زالت تلك الأحياء تحنّ للكتب وأصحابها…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.