في الدولة المدنية لا تجد الدولة فرصةً لظلم أو اضطهاد فئة من المجتمع؛ لأن الدولة المدنية تقوم على التعددية الفكرية وقبول الآخر، والمساواة في الحقوق والواجبات، وتطبيق القانون والدستور على جميع أفراد المجتمع بدون أي تمييز متعلق بشبكات نفوذ أو النظر لانتماءاتهم السياسية أو القومية أو معتقداتهم الدينية.
ودائماً تعترف الدولة المدنية بأن الديمقراطية ليس معناها أن الحكم للحكومة فقط عن طريق الانتخابات المباشرة، إنما تعترف أيضاً بحق الجميع في وضع طرق علمية لإدارة الدولة ومشاركة الأقلية في صنع القرار، وهذا يأتي من مبدأ الثقة في عمليات التعاقد والتبادل كذلك حق المواطنة فلا يعُرف المواطن في الدولة المدنية بسلطته أو بماله أو بوضعه أو بإقليمه أو بعرقه، إنما يعُرف اجتماعياً بأنه مواطن بمعنى أنه عضو في هذا المجتمع ويتساوى مع غيره في الحقوق والواجبات دون أية فوارق اجتماعية، وإنما التزاماً بالدستور والقانون فقط.
كما أن الدولة المدنية ترفض خلط الدين بالسياسة، وفي الوقت نفسه لا تعادي الدين؛ فبالرغم من أن الدين يظل في الدولة المدنية عموداً فقرياً لعملية البناء والتطور وغرس القيم الأخلاقية والضوابط الإنسانية في المجتمع؛ فإن الدولة المدنية في الوقت نفسه ترفض استغلال الدين فيها لتحقيق أغراض سياسية؛ لأن هذا يتنافى مع مبدأ التعددية الفكرية الذي تسعى الدولة دائماً لتحقيقه والمحافظة عليه كما هو، كما أن هذا الأمر يحافظ على قداسة الدين ويبعده عن الزوايا الأرضية الضيقة وعن مواضع الخلاف والمناقشة التي تفقده قيمته كعقيدة لمن يعتنقونه، وتُجرم الدولة المدنية المساس به في أية حال من الأحوال، وبناءً على هذا ترفض الدولة المدنية أن تقع تحت هيمنة أية فئة من المجتمع على أساس ديني أو عِرقي أو سياسي، رغماً عن باقي أعضاء المجتمع وفئاته.
ولكل ما سبق يرى أي إنسان عاقل في الدولة المدنية بيئةً نقيةً وصالحةً للحياة بدون صراعات معنوية مسرطنة تقضي على مستقبل الوطن وتهدد استقراره، ويرى ضمانات الحياة الآمنة في عنوانها دائماً؛ لأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم أصبحت واضحة المعالم ومحددة الإطار، ولا يجوز لأي من الأطراف اختراقها لأن تبقى سيادة القانون هي اليد الأعلى فوق الجميع، كما أنه يرى تربةً خصبة للبناء والتنمية والتطور بدلاً من الصراعات التي تدور في المجتمع، سواء على خلفية سياسية، أو دينية، أو سلطوية.
ولكن يتوقف بناء الدولة المدنية متكاملة الأركان في أي مجتمع على نسبة الوعي بداخله ومدى إدراك هذا المجتمع بالسلطة، وأيضاً إرادته في تحدي تشرذم هذا المجتمع، ولملمة أعضائه، وإعادة هيكلة نسيجه، وإنهاء فكرة الهويات العرقية أو الدينية أو الأيديولوجية، وإعلاء فكرة هوية موحدة يتفق عليها الجميع تهدف لبناء دولة آمنة لجميع أفراد هذا المجتمع، والتمسك بالسير وراء قواعد البناء العلمية، والتوقف عن السير وراء جموح العواطف الفطرية المتحررة من كل القيود الأرضية، وبهذا يكون المجتمع مؤهلاً للتحول من الصراع المعنوي والسلطوي إلى دولة بناء وتنمية وتطور واحترام سيادة القانون والدستور وضمانات الحياة الآمنة والعصرية دائمة التطور.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.