المُتَلَصّص -يا سادة- في اللغة العربية، هو الرَّجل إذا صار لِصّاً، وهو كذلك مَن استرقَ السَّمعَ خِفيةً وتجسّس، وتحت مظلّة كلّ الأديانِ والتقاليد في مشرقنا وحتى في العالم قاطبة، فإنّ التلصُّص رذيلة، روّادها مكروهون ومنبوذون، وفعلَتُها بمعنيَيها قبحٌ رديء.
ولكن ومع اجتياحِ وسائل التواصل الاجتماعي عالمنا، فقد انتشر نوع آخر من التلصص، كأَنْ تفتحَ عيونك خلف أضواء هذه الشاشة الصغيرة في العتمة، وتبدأ بمسحٍ شاملٍ على أخبار عشّاقكَ السابقين أو حتى رفاقك الذين أصبَحوا في العالم الآخر "كونك سورياً" طبعاً، تتنقّل من صفحة إلى صفحة، تفتح الصور، تكبّرها، تسردُ في التفاصيل، تغرقُ فيها حتّى النّخاع، تقرأُ حالاتهم وتستعلِم كالطيف عن أحوالهم، تعود بالتاريخ إلى الفترة التي عايشتهم فيها، تبحثُ لو كانوا قد كتبوا عنك شيئاً، تمرُّ كالخيال، تقرأُ وتستذكر، تكتُب لهم ثم تحذف، تكتب ثم تحذف… ثمّ لا تكتب!
تفكّر.. تعود الذكريات؛ بل إنّها لا تعود، ولكنّها تحيا فقط، نعم هي كذلك، تستفيق في فكرك، تتجول في خاطرك، تغبُطكَ فرحاً ثم تخيفك… مع أنها مَضَت إلّا أنّك تضحك وتبكي مجدّداً، تقول: يا ليتني تعلّمت من الماضي ولكنّك لم تفعل!
ومع استمرار توافد الفوتونات الضوئية إلى خلاياك البصرية، فإنّك تُختَرق بأكبر كمٍّ من الذكريات، حتّى إذا انتهت وارديّة التلصص تلك، ومع تداخلِ خيوط الليل مع الفجر تتعرّى القلوب، فتبوحُ بحبِّها وبأشواقها التي جاهَدَتها طوال النهار والليل، تفضحها تلك الساعات ذوات الوجهين.
فهي بعدَ أن تأمن لنقائها تخونُك، لتَسرد الماضي كله… حتى لو كنتَ قد نسيتَ منه، فإن هطلَت غمامات تلك الذكريات على أروقة خواطرك، انتشيتَ حُزناً وشوقاً، لتوقن -يا ولدي- بأنّ الحبّ لا يسقط بالتقادم؛ بل ينخرُ ويعربدُ مع كلِّ زفيرِ ليلٍ تطولُ ساعات انتظار فجره.
تتأمّل انبثاق الفجر، وتنصِتُ مُلهماً لسيمفونيّة تلك الطيور التي تفترشُ الأغصان التي بلّلتها أمطارُ المساء، ثمّ تعودُ لقلمك وورقتك البيضاء خالية السطور، محاوِلاً مخاطبة ما قَد خلا بفيضٍ آثمٍ من القلب، ثمّ ترفعُ قلمك وتأتي بآخرَ أحمر غامق فترسم به خطاً عريضاً تُسدِلُ به الستار على ما فكّرتَ به طوال تلك الساعات اللعوب، ترسمُه كأنّه أحمرُ الكبرياء الذي عليكَ التزامه.
وتمضي إلى يومٍ جديد بابتسامةٍ مرسومةٍ بشقّ الأنفس، لذكرياتٍ لا تكادُ تخلو كل تفاصيلها من لمسات وطنك الذي يكابدُ ويصارعُ للبقاء، لذكرياتٍ بقي من هم صانعوها هناك، على السواء تحت التراب أو فوقه!
هكذا حالك أيها "المُتلصّص المتطور"، تستخبِرُ بصمتٍ عن أحبّةٍ وأصدقاء تفرّقت بكم السُّبل، تمرُّ كالطيف… كالخيال، ثمَّ ترحل لتعيش يوماً جديداً تنسخُ فيه على قرصك الصّلب ذكرياتٍ جديدة ليومٍ بعيد… فتحيّةً لهؤلاء "المتلصّصين" الذين يلبسون رداء الماضي في ليلِهم مهما كان جميلاً أو جحيماً واقعُهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.