لا تزال دوافع ستيفن بادوك الرجل الذي نفذ هجوم لاس فيغاس بأميركا مجهولة وأصبحت لغزاً يحير العامة ويضع ضغطاً هائلاً على المحقّقين الفيدراليين والمحليين لإيجاد تفسير للجريمة التي راح ضحيتها 58 شخصاً، بالإضافة إلى إصابة المئات، وفقاً لما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، الخميس 5 أكتوبر/تشرين الأول 2017.
وقال الشريف جوزيف لومباردو من شرطة لاس فيغاس في مقابلةٍ صحفية: "من أجل سلامة هذا المجتمع أو غيره في الولايات المتحدة، أرى أنَّه من المهم توفير تلك المعلومات، لكنَّها ليست بحوزتي. نحن لا نعلمها بعد".
ولم يُعثَر بعد على أي بيانٍ مُبالِغ من مُنفِّذ الهجوم بشأن ما أقدم عليه. ولم تُظهِر روايات جيران وأقارب بادوك أي ذكرٍ لتصرّفه على نحوٍ خطير أو تبنيّه آراء متطرفة. وعلى عكس القتلة السابقين الذين ارتكبوا هجمات في أميركا وأخبروا الشرطة بذلك، فإن بادوك لم يترك مجالاً لتفسير فعلته.
وتحاول السلطات الوصول إلى طرف خيط يمكنه من فك اللغز، فقد صادر مكتب التحقيقات الفيدرالي أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة الخاصة ببادوك من معمله الواقع ببلدة كوانتيكو في ولاية فيرجينيا من أجل مراجعتها. واستجوب عملاء المكتب صديقته ماريلو دانلي، في محاولةٍ لمعرفة كيف كانت حالته النفسية وقت وقوع حادث إطلاق النار، لكنَّ الشريف لومباردو قال إنَّه ليس "مخوَّلاً الإفصاح" عن المعلومات التي اكتشفها.
فرضية داعش
وتتعامل السلطات بحذر مع تبنّي تنظيم "داعش" للهجوم. لكنّ نائب قائد شرطة لاس فيغاس كيفين ماكماهيل قال إنّ السُلطات لم تكتشف أيّ علاقة معروفة بين بادوك والتنظيم. وأضاف: "مازلنا حتى الآن لا نملك دافعاً واضحاً أو سبباً لماذا حصل هذا"، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية.
ونقلت مجلة "نيوزويك" عن مسؤول أميركي، قوله: "لا يوجد هناك ما يشير إلى وجود أي رابط بينهما"، وأضاف أن "داعش قال أشياء كثيرة"، مشيراً إلى أن التنظيم زعم الكثير من الأشياء التي تبين أنها غير صحيحة، مثل عملية السطو الفاشلة في الفلبين.
وخلَّف بادوك وراءه سلسلةً من الأدلة كانت، حتى الآن، مبهمة أكثر منها كاشِفة؛ إذ وُجِد بغرفة الفندق رسالة لم تُفصِح السلطات عن فحواها بالضبط. لكنَّ لومباردو قال إنَّها احتوت على أرقامٍ يجري الآن تحليلها لمعرفة صلتها بالحادث، وإنَّها لم تكن بياناً أو رسالة انتحار.
وتمكَّن المحققون من التعرف على 47 سلاحاً نارياً امتلكها بادوك، من بينها 12 سلاحاً في جناحه الفُندقي مزوَّدة بأجهزة تُسرِّع من وتيرة عملية إطلاق النار، واكتشفوا أيضاً منظومة من الكاميرات التي وضعها بادوك لمراقبة المنطقة المحيطة بموقعه.
وقال ستيفن وولفسون، وهو المدّعي العام بمقاطعة كلارك في ولاية نيفادا، حيث وقع الحادث، إنَّه برغم ضخامة الهجوم في لاس فيغاس، فإنَّ سبب تنفيذ بادوك إيّاه يظل علامة استفهامٍ كُبرى تطاردنا.
وقدَّر وولفسون أنَّ منفّذي هجمات القتل العنيف يقدِّمون "في 99 بالمئة من الحالات" تبريراً لأفعالهم، مهما كان هذا التبرير ملتوياً، بحسب ما نقلته "نيويورك تايمز".
وفي حال كان بادوك قد اعتُقِل، يقول وولفسون إنَّه "ربما كنّا سنعرف السبب حينئذ. وربما كان سيقول: هذا سبب فعلتي تلك. لكنَّنا لا نعلم لأنَّه قتل نفسه، وهذا مُحبِط".
خبراء يحذرون
وشاركت كاثرين شوايت، وهي مسؤولة سابقة بارزة بمكتب التحقيقات الفيدرالي، في كتابة دراسة مطوّلة خاصة بالمكتب عام 2013 بحثت في 160 حادثة إطلاق نارٍ جماعيّ شهدتها الولايات المتحدة. ولم تنظر الدراسة بشكلٍ خاص في الدافع وراء كل حادث إطلاق نار، لكنَّ كاثرين قالت إنَّ كثيراً من الأسباب الكامِنة وراء تلك الهجمات كانت واضحةً للمحققين.
وأضافت: "كان السبب يتمثَّل في أنَّ عشيقاً هُجِر، أو العِرق، أو الدين، أو شخصاً طُرِد من عمله. وفي مرّات أخرى، يكون الوصول للدافع أكثر صعوبة. وليس هذا أول رجلٍ يبدو لنا أنَّه قد وجد هدفاً يصب عليه غضبه ولا نعرف سبب ذلك الغضب. فالغضب يتجسَّد بأكثر من طريقة".
وكانت قناة NBC الأميركية، نقلت عن مديرين في كازينو فندق ماندالاي باي قولهم، إن بادوك كان يلعب القمار بأكثر من 10,000 دولار يومياً لعدة مرات خلال الأسابيع الماضية. ولكن لم يُعرف ما إذا كان بادوك قد خسر مبالغ كبيرة في الفترة المذكورة، وكانت الدافع وراء تنفيذه للعملية.
وأمام الروايات المتعددة يحذِّر الخبراء والعاملون السابقون بقوات إنفاذ القانون الأميركية من أنَّ إيجاد الدافع الحقيقي للقاتل قد يستغرق وقتاً، وذلك من خلال تجميع البيانات الإلكترونية مع ما قِيل في المقابلات المجراة واللمحات الأخرى من حياةٍ انتهت إلى مسارٍ من العنف الشديد.
وقال مسؤولون مطَّلعون على التحقيق الجاري حول إطلاق النار في لاس فيغاس أنَّهم يتوقّعون أن يتطلّب الأمر بحثاً شامِلاً في ماضي بادوك، وأملاكه العديدة، وعقوداً من حياته، لاستنتاج الأسباب التي ساقته إلى نوافذ فندق ماندالاي باي وفي عقله مخطّط تفصيليّ للقتل. وعلى حد وصف مكتب التحقيقات الفيدرالي، إنَّهم يريدون فهم "الطريق الذي أوصله للعنف".
أمرٌ صعب
أندرو برينغول، وهو عضوٌ سابق بوحدة مكتب التحقيقات الفيدرالي المختصّة بالتحليل السلوكي، قال في تحليله للهجوم العنيف على لاس فيغاس "ربما كان يسعى (منفذ الهجوم) للانتقام. ربما كان هذا ضيماً شخصياً. وربما كان بادوك أحمق كبيراً. إذ يحب المقامرون التحدُّث عن أرباحهم، وليس خسائرهم. لقد عملت لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي لمدةٍ طويلة. وهُم بارعون في النظر لخبايا حياة شخصٍ ما. في النهاية سيكون لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي فرضية. لكن السؤال حول ما إن كان المكتب سيكون قادراً على إثبات تلك النظرية، فهذا سؤال آخر".
وأقرّ أندرو ماكيب، نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، في مقابلةٍ تليفزيونية أُجريت معه يوم الأربعاء الفائت، 4 أكتوبر/تشرين الأول، بأنَّ النفاذ إلى داخل عقلية بادوك مازال أمراً صعباً.
ورفض استبعاد احتمال أن يكون العُنف الحاصل أمراً لا سبب له، أو أنَّ المحققين قد لا يجدون سبباً في نهاية المطاف.
وقال ماكيب، متحدثاً عن هجوم لاس فيغاس لمحطة CNBC التلفزيونية: "يختلف هذا الهجوم عن عديدٍ من الهجمات التي تعاملنا معها مسبقاً؛ لأنَّه لا توجد بحوزتنا أية أدلة مباشرة قد تُشير لأيدولوجية مُطلِق النار أو دوافعه".
وقال إنَّ بادوك "لم يكن تحت أنظارنا، ولا أنظار أي أحد، قبل الحادث".
ومع ذلك، فإنَّ كثيراً من القتلة يكونون مجهولين بالنسبة للسلطات قبل تنفيذ هجماتهم، وينبِّه بعض الخبراء إلى أنَّ اللغز المحيط ببادوك قد لا يكون شاذاً كما يبدو لنا. إذ مرَّ عدد من المذابح الحادثة في العقود الأخيرة بدون تفسير، كلياً أو جزئياً.
ومن الأمثلة على ذلك، لم يجد المحققون دافعاً مقنعاً لمذبحةٍ وقعت في جامعة تكساس عام 1966، والتي عادةً ما توصف بكونها أوّل حادث إطلاق نارٍ جماعي في تاريخ أميركا الحديث.
وفي تلك الحادثة، قتل قنّاص، يُدعى تشارلز ويتمان، 14 شخصاً برصاصٍ أطلقه من برج ساعة الجامعة بعدما قتل عائلته. واستغرق تفسير هجماتٍ أخرى شهوراً، مثل مقتل 12 شخصاً في قاعة سينما بمدينة أورورا في ولاية كولورادو، في يوليو/تموز عام 2012.
وقال جورج براوشلر، المدّعي الذي قاد القضية ضد مسلّح أورورا جيمس هولمز، إنَّهم لم يكونوا واثقين كفاية لدرجة أن يضعوا تفسيراً للحادث حتى تحصَّلوا على مذكّرات هولمز وأجروا تقييماً نفسياً تفصيلياً للمتّهم. وقال براوشلر إنَّ تلك المعلومات أقنعتهم بأنَّ هولمز لجأ للعنف بعد إحساسٍ مدمِّر بالفشل المهني والرفض الجنسي.
وأشار لانكفورد إلى أنه "في حالاتٍ عديدة، حتى عندما تصرِّح السلطات بالدافع، فإنَّ ما يقولونه يكون هدفه هو التأثير العام، ولا يكون بالضرورة التفسير الفعلي وراء أفعال مرتكبي الجرائم".